ابتداء يجب أن نعلم أن الإسلام لا يؤمن بالثيوقراطية كما هو الحال في الكنيسة.
ومن هذا المنطلق نتساءل هل توجد علاقة بين العلمانية والإسلام؟ وهل للعلمانية جذور إسلامية؟
سؤالان وجيهان يستحقان الجواب، فالغرب يعترف أنه استقى العلمانية من فلاسفة مسلمين كالغزالي وابن خلدون وابن المقفع وابن رشد. كما أن الثابت أن الرسول كحاكم لم يدع أنه معين من الله بل كان يمد يده للناس الذين قبلوا به حاكما، ولم يجبر الناس على الامتثال لحكمه فمن شاء فليقبل به ومن شاء فليعرض، فهو حاكم تراض قال عز من قائل: (فإن اعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ).
فإذا كانت سلطة النبي هي البلاغ -وهي حتما كذلك- فإن سلطة رجال الدين في الإسلام يجب أن لا تتجاوزها.
كما أن أوضح صورة للدولة اللادينية تتمثل في صحيفة المدينة التي تؤكد فصل الدين عن الدولة وجعلت المؤمنين وأهل الكتاب المنضوين تحت معاهدة الصحيفة أمة واحدة.
ومما سبق يتبين لنا بأن أزمة الإسلام مع العلمانية تكمن في تاريخ طويل من تجربة المدينة النبوية والسقيفة بعد انتقال رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى دار الخلود واختلاف صحابته الأجلاء على من يخلفه وحتى سقوط الخلافة العثمانية على يد المجدد باعث العلمانية السياسية كمال أتاتورك مؤسس تركيا المعاصرة، وكذلك تاريخ موازٍ من اجتهادات الفقهاء الممتدة مساندة للخلفاء سمى بالشريعة الإسلامية، وإيمان ملايين المسلمين حول العالم بإلهية الشريعة، بينما هي في الأصل تجميع لجهد بشرى خلاق.
والشريعة مع الخلافة شكَّلا مرجعية المنافحين ضد علمنة المجتمعات الإسلامية بينما المدقق في الشريعة والخلافة سيكتشف أنها علمانية بامتياز، وقد كان هذا رأى محمد عمارة قبل ارتداده عن الفكر التنويري في كتيب صدر عن دار الثقافة (التي كانت تنشر الثقافة الثورية وقتها) أدان فيه محمد عمارة الشيعة بوصفهم الفريق الضال الذى يجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية في الإسلام وكتب نصًّا مذهلاً نورده نصًّا: "إن إسلامنا علماني بامتياز وأن "مصطلح العلمانية" لا يمثل عدوانًا على ديننا ولا انتقاصًا من إسلامنا، بل على العكس يمثل العودة بديننا الحنيف إلى موقعه الأصيل وموقعه المتميز في هذا الميدان"، محمد عمارة –الإسلام والسلطة الدينية– طبعة أولى1979 صفحة 93، 94.
وإحقاقًا للحق قد تبرأ من هذا التصريح في الطبعة الحديثة من الكتاب الصادرة عن دار الشروق بعنوان "الدولة الدينية بين العلمانية والسلطة الدينية" وحذف كل إشارة إلى علمانية الإسلام.
سيقول قائل إن محمد عمارة ليس حجة على الإسلام فمن يكون حجة إذًا؟
وتحضرني طرفة يقال إن الملك فيصل عندما أراد إدخال جهاز التلفاز -والعياذ بالله- إلى المملكة عارضه الفقهاء بحجة أنه حرام، فجمعهم على مائدة عامرة وجردهم من سياراتهم (أمريكية الصنع) ووضع بدلاً منها جمالاً ونوقًا بعددهم، فلما خرجوا وصدمتهم المفارقة قاموا بتعديل الفتوى، وعرفوا أن الأصل في الأشياء هو الإباحة.
وفي التاريخ الإسلامي لم تظهر الثيوقراطية أي الحاكمية أو دعاوى الحق الإلهي سوى في أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان كتلك التي تجعل الإمامة في قريش، أو في فخذ من فخوذها كالعباسيين أو العلويين أو في ذرية الحسين أو في البطنين.
وكان أول من ادعى الحق الإلهي في الحكم هو عثمان بن عفان الخليفة الثالث حين رفض التنازل عن الحكم سلميا قائلا: "والله لن أخلع قميصا ألبسنيه الله".
المهم في النهاية إننا نؤكد على فكرة العلمانية السياسية التي لا تعادى الدين -أي دين- ولكنها ضد التمييز الديني، وأذكركم ونفسى بذكر الوطن الذى لا حامي له سوانا، فللدين –أي دين– رب –أي رب– يحميه، وليس للوطن سوى مواطنيه وسنظل نصرخ في وديان الجهل والغبن والحماقة مطالبين بكشف الغطاء عن أعين أولي النُّهى –النُّهى تعنى العقول الواعية– وقانا الله وإياكم شر سوء الفهم والتربُّص ورزقنا حسن النوايا حتى ولو كره المتخابثون.
فالعلمانية هي فصل تام بين الديني (أي ديني) والمدني، والفصل لا يعنى بالمناسبة الضدية والعلمانية لا تعادي الدين أي دين وإنما تعني حياد الدولة تجاه المسائل الدينية والمواطنة الكاملة غير المنقوصة لا تمييز في الدستور بين مواطن وآخر بسبب الدين أو العرق أو الجنس.
فليست دينا حتى تنافس الأديان، كما أنها ليست إيديولوجية وإنما وسيلة تنظيم شؤون الحكم، نستقدمها كما استقدم الفاروق رضوان الله عليه نظام الدواوين من بلاد فارس.
فالعلمانية يا سادة يا كرام:
هي المخرج الوحيد للمسلمين فلا يجوز تكفيرها، فمعنى التكفير أن الكفر هو الذي أنقذ الغرب من الحروب الدينية وأن الكفر هو سبب تقدمهم وفي هذا ترويج للكفر.
يا سادة يا كرام العلمانية:
وسيلة تحمي المتدينين من عدوانهم على بعضهم بعضا. كما أنها تحترم الأديان.
ولولا العلمانية لما انتشر الإسلام في الدول المسيحية وتم بناء مئات بل آلاف المساجد في أوربا وأمريكا بينما في الدول الدينية لا تسمح بممارسة الطقوس حتى داخل البيوت!!
يا سادة يا كرام:
العلمانية هي تنفيذ لأمر الله الذي أمرنا بمقاتلة من يفرض نفسه قيما على دين الله ويدعي تمثيله، لأن في هكذا دعاوى افتئات على الله وإثارة للفتن الطائفية فقال تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" وهذا أقوى من شعار الدين لله والوطن للجميع.
فالخلاف بين العلمانية والكنيسة التي تؤمن بالحق الإلهي -الثيوقراطية- وليست على خلاف مع الإسلام على الإطلاق.
يا ساده ياكرام:
لقد أسيئ إلى كثير من المصطلحات كالديمقراطية والليبرالية من قبل الكنيسة، ثم رد لهذه المصطلحات الاعتبار وغداً سيتم رد الاعتبار لمصطلح العلمانية وسنعلم أن لا علاقة للعلمانية بالدين والفصل هو فصل رجال الدين عن الدولة لا عن رجال الدولة، فالحاكم يتدين ما شاء المهم لا يفرض دينه على عباد الله، وقد يكون الحاكم المتدين أكثر التزاما بالقوانين وتحقيق العدل لأن له رقابتين الأولى رقابة الشعب والثانية الرقابة الإلهية.
وطالما وغاية الشريعة هو تحقيق العدل وحفظ الكليات الخمس وأن الدولة ليست خاضعة للحساب الأخروي وإنما الفرد هو المحاسب فإن العلمانية وسيلة تنظم علاقات الشعب داخل الدولة وعلاقة الدولة مع بقية دول العالم.
وطالما وهي تحقق مصالح الناس والقاعدة الذهبية في شريعتنا الغراء تقول أينما تكن المصلحة فثم شرع الله.
يا سادة يا كرام:
العلمانية ليست دينا فتنافسه ولا أيديولوجية فتنافس الأيديولوجيات، بل هي وسيلة تسمح بحرية الاعتقاد وتحمي المتدينين وتحترم الأديان وتقف منها على مسافة واحدة.
والله وحده العالم بمن ضل منا ومن اهتدى وقد أمر الله سبحانه أن يقول لنا: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وما أنا إلا نذير مبين).
إذاً لكي تتوقف حروبنا التي تتخذ الصفة الدينية لا بد أن نبحث عن نظام سياسي نبني من خلاله الدولة المدنية.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك