عبدالستار سيف الشميري
سوسيولوچيا المعاناة والفرح.. عيد اليمنيين
العيد نافذة صغيرة من زمن مغامرة البشرية مع البهجة والفرح، ويوم من رحاب الأمل الفسيح، تستجمع فيه طاقات جديدة لإعادة ترميم جدار العلاقات مع الارحام والجيران.
وهو محطة تتهانأ فيها المشاعر وتبحث فيها النفوس عن سكينة وهو حدث ثقافي واجتماعي كثيف المعاني يحتاج إلى بحث سوسيولوجي للكشف عن شفرته وتأثيره لا سيما عندما يكون العيد في زمن الحرب.
كما هو شأن اليمنيين الذين يحاولون في العيد خلق بحار من ضوء تشبه بحار الأبدية كي يسبحوا فيها كل عام مرة أو مرتين من اجل التخفف من وعثاء الحرب وما علق في الروح والبدن من تأكسد وجروح.
يأتي العيد وهم منذ ثماني سنوات يبحثون عن انبلاجات صوت "ناي" يأتي من بعيد ليبشرهم بالسلام يرقبون بصيص ضوء عله يتشكل كي يضيئ عتمة الايام السود الحوالك.
يأتي العيد وتنبت في كل بيت يمني بسمة ممزوجة بالبن في صباحات قاسية، يسحرهم الصوت المألوف في صباح العيد و"يمتحنهم" أيضا.
"الله اكبر الله اكبر صدق وعده واعز جنده" أنه ذات النداء لكن وكأنه ليس هو ذات الشعور.
كانت جلودنا صباح كل عيد تقشعر فرحة وغبطة من ذلك الصوت الصباحي وندرك بسماعه أننا في يوم مختلف، ليس من قاموس الايام، أنه يوم بمذاق الجنة ونكهة الوطن وحلاوة الأهل، حتى عندما كبرنا كل شيء كان على ما يرام والعيد هو ذاته مع تغير طفيف في منسوب الفرحة والشوق.
ومنذ سبع سنوات عجاف والثامنة اوشكت، تذهب أنفسنا حسرات في كل عيد، نتبادل النظرات على استحياء وحزن عميق، وحدها عبق الذكريات تطاردنا في الوطن والمنفى، ورائحة البن وحدها لم تتغير لكن الوطن ليس الوطن والنفوس أيضا لم تعد كذلك.
يحاول اليمني أن يتكيف مع ايامه حلوها ومرها عيدها وبؤسها ويصنع فرحته من عدم الموجودات، إنها قدرته الفائقه التي تعلمها من دروس الدهر وتقلبات الايام منذ سيل العرم و"باعد بين اسفارنا".
لطالما بهرتني لوحة العيد الجميلة في اليمن، وكم هو صعب فقدانها وسرقتها بفعل الحرب والشتات، وتلطيخها ليصبح العيد بلون الدم ولحاف الموت، وزفرات الحنين إلى من غادرونا إلى السماء قبل أوان، ومروا مرور الكرام.
كم هو مؤلم أن لا يتبقى من العيد سوى حكايات من ضفة الحلم والذكريات وبقايا من رائحة الأمكنة التي لا تنسى، الطقوس والزيارات، بهحة الكبار وفرحة الصغار وابتسامات الأطفال، ظفائر الفتيات المنسوجة والحناء الفواح المنقوش، أريج المشاقر والفل، مقيل الظهيرة حتى المساء، زحام صلاة العيد، التكبير والسلام، وانشودة واحدة "كل عام وأنتم بخير"، بعض فرقعات طماش الأشقياء من الصبيان، العمائم الملونة والكوافي المعصفرة، التي تأتي من نكهة التاريخ وتلبس في الأعياد كموروث عزيز.
إنها لوحة الوطن المزروع بالحب والبن والباميا والذرة والتسامح، الممهور بعرق جباه المزارعين في الريف، وللعيد في الريف طعمه المختلف، من كورسات السماع الصوفي في "مقصورة" القرية إلى حكاياتهم في المساء عن أحلامهم المؤجلة وتلك التي تحققت وأثمرت في موسم الحصاد، أشواقهم للغائبين، والمغتربين الذين تصل أصواتهم عبر الهاتف، وعبر حوالات دعمهم للأهل والأقارب.
لقد شكل العيد بكل مفرداته من بهجة وفن وغناء وعطور وتزاور رزنامة الفرح الجميل، ولطالما سهرنا صغارا حتى مطلع الفجر وبارحنا النوم في انتظار صبح العيد أن يبدأ بعزف ايقاعاته وأحداثه.
تظل لوحة العيد بديعة فريدة.
وما زال للفرحة متسع، فها هي جموع الناس في اليمن تصنع شيئا من سرور رغم كل المعاناة والفقر والتعب والفقد، إنه لون من الامتزاج بين المعاناة والفرح، وسفرٌ من اسفار الصبر لشعب آلف الصبر وجعله طريقة حياة وعنوان بقاء.
وكل عام وأنتم بخير.