قيل إن أصعب اشتياق أن تشتاق لنفسك القديمة، ضحكتك القديمة وحتى لقلبك القديم. ولعل هذا ما تفطّن له الفلاسفة مبكّرا، وأشاروا إلى أن ثمة شيئا ما ينمو في أحشاء هذا العالم وراح ينهش كينونة الإنسان عبر مسيرته في الوجود: الاستغلال، العبودية، العنصرية، الاستلاب، الاغتراب، القهر والبؤس، التفاهة، التحول فالمسخ والآتي مرعب.
وحدهم الأنبياء انتبهوا إلى هشاشة الكينونة وحال الإنسان وتجندوا للعبور به من حياة فانية مؤقتة على الأرض نحو نهاية مثمرة تؤسس للخلود خارج الطبيعي فينا.
لقد أصبحت الأشياء المحيطة بنا تتهاوى، تنهار وتموت بعد أن صارت تفقد مكانتها بفقدانها للمعنى وللدلالة والوظيفة. فصرنا نعيش في وطن صار أثرا بعد عين، يمن الموت والقهر وصنوف العذابات بعد أن كان يُسمى ذات يوم باليمن السعيد، بلد استبيح وهو ماض إلى أن يصير بلا أسرار ولا رموز، وتمزقت، لا الوصل بقي وصلا ولا الفصل بقي فصلا.
كل شيء صار يتآكل حد التلاشي: المعنى، القيمة، الهوية، الروح، الجسد، العلامة، الرمز، اللغز، السرّ، البعد… فهل هو عصر النهايات: نهاية التاريخ، نهاية الأوطان، نهاية الإنسان، نهاية كبرياء الشموخ والاعتزاز بالوطن، نهاية المعنى الحقيقي لأي مشروع وطني يفترض أن يكون موجوداً وجامعاً…؟ هل هو عهد موت كل تلك القيّم، المبادئ، موت التطلعات والأماني، وموت الرغبة في استعادة وطن والوصول إلى مستقبل منشود؟
المرعب والمخيف ليس العدم بل الخواء.
ويبقى السؤال: كيف استطاع الحوثي أن يحيل اليمن وطناً وشعباً الى هذا البؤس؟ هل لأنه مشروع خراب وثقافة موت وسلطة تجويع وترهيب ونهب؟ أم لأنه لا يوجد مشروع وطني وطرف وطني يعمل على تحجيم الحوثي ومشروعه، ويقدم نموذجا يلتف الناس حوله، وبذلك يفنى الحوثي ويبقى اليمن الأرض والتاريخ والإنسان والطموح.
مَنْ مِنْ مصلحته غير تجار الحروب في أن يعطّل في الإنسان كل ما هو جميل: العقل، الحرية، المسؤولية، العزة والكرامة، العفة والأنفة، الحب والصداقة، الاجتهاد والإبداع، ويعيده إلى نقطة غريزية تتكئ على العبودية والعقم والتقليد والتكرار، على الظهور والغواية والإغراء والاستدراج والرغبة والخيانة والعمالة وخلق الظلام في كل ما يمكن أن يشع منه النور؟
لقد ابتلعتنا عمالة العملاء وهزالة مواقف من كنّا كشعب نتوسم فيهم خيرا، وصار إيماننا بأن ما يطبخ من تسويات حتماً ستفرض الحوثي كابوساً على صدور الناس والآتي مرعب، فالمؤشرات الآن جميعها تقول بأننا في الطريق إلى تفكيكات مفزعة، وفقاً لما خُطط له مسبقاً ونفذته القوى اليمنية بخلافها واختلافها وتشرذمها وتخندقها خلف مصالح شخصية وحزبية وفئوية للأسف.
أين سنقيم بعد هذه الانهيارات المتتالية؟ من باستطاعته بعد اليوم أن يعيد إلى اليمن وهجه وجاذبيته ومكانته؟ كيف سنواصل شكل حضورنا على كوكب الأرض ونحن لا نتحرر إلا لِنُسْتَعْبَد ولا نبني إلاّ لِنُدَمِّر؟