د. صادق القاضي
عن الشخصية الجدلية "معاوية بن أبي سفيان"(2)
كان العرب قبل الإسلام، كما نعرف، مجرد قبائل بدوية أو نصف بدوية معزولة في صحاري وواحات وسط وشمال الجزيرة، وكانوا على الصعيد السياسي، يرفضون ظاهرة "الدولة"، ولم يكن لديهم أيّ تجربة أو تصور مسبق لها. وكان تصورهم لـ"السلطة" لا يتجاوز مستوى القبيلة.
وبدوره، فإن الإسلام الذي وحد تلك القبائل، تحت سلطة واحدة، خلا تماماً -في مصادره الأصلية: القرآن الكريم والسنة النبوية- من أي إشارة لنظام سياسي خاص محدد يمثل الإسلام بالضرورة، كما خلا من أي ذكر لطريقة محددة في تداول السلطة، وبالتالي صعد كلٌ من الخلفاء الراشدين للسلطة بطريقة مختلفة..
نوعية النظام السياسي، وطريقة تداول السلطة. هي أصلاً مسائل سياسية نسبية تخضع لمتغيرات البيئة والزمان والمكان.
فالنظام السياسي في نوعيته استجابة لطبيعة المرحلة والبيئة، ويقاس نجاحه بمعيار المصالح التي حققها في شروط الزمان والمكان.
وعليه فإن غياب نظام حكم محدد للدولة، وتداول السلطة في الإسلام، هي خاصية إيجابية عظيمة للإسلام الذي ترك هذه المسائل النسبية مفتوحة على اجتهادات البشر يحلونها بما يتلاءم معهم في كل مكان وزمان.
المشكلة في السياق العربي، بعد وفاة الرسول، أنهم كانوا دون تقاليد أو مؤسسات سياسية جاهلية، أو معايير إسلامية لحل مشكلة السلطة، ما أتاح المجال لاستفحال الصراعات حولها بين القوى الإسلامية، وسرعان ما خرجت الأمور عن السيطرة بعد مقتل عثمان. وكانت الأمور تسير بالدولة العربية الناشئة إلى الشظي والضياع، وربما التلاشي إلى الأبد.
في تلك اللحظات التاريخية المفصلية الحرجة ظهر "معاوية"، وقام بجلب النظام الملكي الوراثي المعروف مسبقاً في اليمن وفارس وغيرها، ومن خلاله أسس أول وأكبر إمبراطورية عربية في التاريخ.!
قد لا يبدو هذا النظام مثالياً اليوم، إلا أنه بالمعايير العملية كان ناجحاً، وبالشكل الذي يفسر كونه كان هو النظام القائم في معظم الامبراطوريات القديمة في العالم، وما زال مستتباً في كثير من دول العالم حتى اليوم.
كما لم تكن هناك في السياق العربي حينها، مفاضلة بين هذا النظام ونظام أكثر كفاءة، كديموقراطية أثينا أو الديمقراطية الحديثة، كانت المفاضلة فقط بين نظام ملكي جاهز وقائم في الدول المجاورة، وبين اللا نظام أو الفوضى، والانقسامات والصراعات الدموية المتزايدة التي كادت أن تؤدي بالتجربة السياسية العربية الناشئة إلى العدم.
وكان من الطبيعي أن يكون لمعاوية خصوم وأطراف متضررة منه ومن النظام الذي جلبه، وتأسست عليه الدولة الأموية، وعلى هذا الأساس حاولوا النيل من شخصيته، واعتبروا النظام الذي جلبه أول محاولة لتغيير نظام الخلافة الإسلامية الراشدة، وتحويلها إلى "ملك عضوض". حسب بعض الأحاديث التي من المؤكد أنها وضعت في العصر العباسى.
في كل حال، من حق العباسيين والشيعة أن يناوئوا معاوية، لكن لنتذكر دائماً:
• أولاً: أن "الخلافة الراشدة" لم تكن نظاماً سياسياً محدداً، ليحوله معاوية إلى "ملك عضوض".
• وثانياً: أن النظام الملكي كان هو البديل الوحيد المتاح لحل مشكلة التنازع على السلطة. وكانت الصراعات الإسلامية الإسلامية على السلطة ستؤول حتماً إلى النظام الملكي من قبل معاوية أو غيره.
• وثالثاً: أن خصوم معاوية لم يقدموا بديلاً، ولم يكونوا يحملون مشروعاً سياسياً مختلفاً، وعلى العكس تبنوا نفس النظام الذي جلبه عدوهم معاوية، فاستنسخت الدولة العباسية النظام الأموي بحذافيره، مع إضافة بعض البهارات والتوابل الكهنوتية.
غير أن الشيعة، كانوا وما يزالون هم الأكثر عداءً وانتقاداً لمعاوية. وهم بمختلف فصائلهم يدعون إلى النظام الوراثي نفسه. فقط أضافوا عليه كماً هائلاً من التصورات العنصرية والعقائد الكهنوتية، باعتبار السلطة والدولة حقاً إلهياً مقدساً لبني هاشم، دوناً عن العالمين.!