في الأربعينيات من القرن الماضي، تُوِّج محمد محمود الزبيري بلقب "شاعر اليمن" -وربما قيل "أمير شعراء اليمن".
كان ذلك ضمن جهود "ولي العهد" أحمد حميد الدين لاحتواء مثقفين وشعراء وناشطين سياسيين بارزين ممن أظهروا ميولاً إصلاحية مزعجة.
وكان أحمد يقدم نفسه لهؤلاء باعتباره "رائد التحديث" داخل النظام العتيق.
ومع كل ما يشي به ذلك اللقب الذي مُنح للزبيري من فخامة وجلال، إلا أن الواقع لم يكن كذلك على الإطلاق.
على أية حال، القصة ليست هنا.
تلقى الزبيري عددا من رسائل التهنئة بهذه المناسبة، إحداها من شخص يدعى يحيى بن إسماعيل الوادعي، وهو طالب ابتُعثَ إلى العراق لدراسة الحقوق، لعله أول مبتعث يمني في تخصص كهذا.
ويتضخ من رسالته الولاء للإمام ومن يُفترض أنه "ولي عهده" [في نظام حكم ديني لا يقبل من الناحية النظرية فكرة "ولاية العهد"].
في الرسالة التي كُتبتْ بلغة منمقة والتي عَثر عليها الدكتور المقالح في أرشيف الزبيري ومخطوطاته، يهيب الوادعي بالزبيري أن يولي "النواحي الاجتماعية شطراً كافياً من ألمعيتك الشاعرة"، وهذا يعني التغني بماضي اليمن وإذكاء روح الحماسة لدى الشعب "لكي يزدادوا إيماناً بمبادئهم وتمسكاً بزعمائهم وتسري في عقولهم نشوة الغرور القومي".
وصلت رسالة الوادعي إلى الزبيري متأخرة بكثير عن موعدها.
وكان قد مضى بعض الوقت على تعيين الأخير (الزبيري) في منصب "مأمور واجبات سوق الشرمان" في ماوية!
لكم أن تتخيلوا المفارقة:
"أمير الشعراء" أصبح "مأمور سوق الأحد"!
يا لها من مكافأة عجيبة لا تتناسب من جميع النواحي الأخلاقية والاعتبارية مع اللقب الفخم الرفيع الذي تم خلعه عليه للتو من جانب "المقام الشريف".
هنا بالضبط يكمن جزء رئيسي من عقدة القصة، وهنا يكمن عنصر الإثارة والظرافة فيها.
سنعرف هذه التفاصيل من خلال الرد القوي المؤثر الذي كتبه الزبيري على رسالة الوادعي.
فالرد لا يكشف فقط عن جانب الاستقامة والفرادة ورهافة الحسّ في شخصية الزبيري، لكنه علاوةً على ذلك يكشف عن أحد أكثر الملامح التصاقاً ودواماً بسياسة الإمامة الزيدية في كل زمان: جباية الزكاة، والاستماتة في سبيلها.
يسخر الزبيري في رده من اللقب الأدبي التشريفي الذي حصل عليه، ومن الوظيفة الحكومية المهينة التي أُسندَت إليه، ويتهم نفسه وضميره الوطني بلا مواربة ولا احتيال.
من الصعب أن نقتبس عبارات بعينها من رسالة الزبيري الجوابية دون أن نفسد على القارىء متعة الشعور بمغزاها الأخلاقي الكلي.
لهذا سننشرها كما وردت نصاً في التقديم الذي كتبه الدكتور المقالح لآخر دواوين الزبيري في الطبعة التي ضمت أعماله الشعرية الكاملة:
"سيدي الأديب الألمعي النابه الصيت يحيى بن إسماعيل الوادعي، حيا الله عبقريته النادرة وبارك لنا في علمه وأدبه وجعله قرة عين لأمته..
تلقيتُ كتابك الواصل إليَّ بواسطة صديق الجميع الويسي، ومن أعجب المصادفات أن الأقدار شاءت أن تسخر مني وأن تهزأ بحياتي، فلم يصل كتابك إليَّ إلا في الوقت الذي كنتُ قد تربعت على إمارة سوق الواجبات في سوق الأحد بوادي من أودية الشرمان بقضاء ماوية.
ولما لمحت الكتاب وعرفت العنوان شعرتُ بهزات عصبية عنيفة كانت نتيجة محتومة للصراع الفجائي الذي حدث عندي بين الحياة ولغة الموت، وبين الخواطر الاجتماعية الحكيمة وضوضاء السوق الشرمانية المضحكة، وقد ترفقتُ بأعصابي وخبّأتُ الكتاب في حقيبتي وأرجأت الاطلاع عليه إلى فرصة أخرى.
كنتُ في ذلك الحين مأمور سوق واجبات الشرمان، ومعنى ذلك أني قائد لثلة من الجيش والحرس الملكي في المعركة التي تدور كل سنة على الأقل بين الأمة والحكومة في سبيل تحصيل ضرائب الزكاة من الفلاحين الضعفاء الذين لا يقابلون جيوش الزكاة الجرارة إلا بالدموع.
وقد تعلمون يا عزيزي أن قائد الجيش يجب عليه أن يخدم التعاليم التي يتلقاها من الجهات العليا. ولو كانت تعاليم وحشية بربرية.
وقرأتُ في كتابك أنك تريدني أن أطرق الشؤون الاجتماعية وأن أثير النعرة القومية في الأنوف اليمنية الشماء، ولم تَدْرِ أني كنت إذ ذاك أحتل منصب المعول الهدام لبقية الرمق المتردد في العظام النخرة، والأشباح الخاوية.
ألم أقل لك أنها سخرية القدر التي ألفت هذه الأضحوكة، وإلا فكيف هذا يا عزيزي، ورأيتك تهنئني على المنصب الأدبي الذي احتليته وتمتعت به في ظل العرش المجيد حياك الله.
ولم يدر بخلدك أننا كنا نعزي أنفسنا على تلك الحياة الشقية التي تضطرنا لأن ننتزع اللقمة من حلوق الجائعين باسم الزكاة، إنهم خُلقوا في أديم هذه الرقعة اليمنية المشؤومة!!".
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك