د. صادق القاضي
"حزب العدالة والتنمية" كنموذج ملهم.. لمن وكيف؟!
كتجربة إسلامية تمت في ظل دولة مدنية، ودستور علماني، ونظام ديمقراطي.. تجربة "حزب العدالة والتنمية" التركي، هي -رغم كل شيء- تجربة ناجحة، حافلة بأشياء بناءة يُفترض أن تكون ملهمة بشكل إيجابي لجماعات الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي.
صحيح، هذه التجربة تتضمن الكثير من الاختلالات البنيوية، كالشعبوية، واستغلال الشعارات والعواطف الدينية، وتطويع الديمقراطية لأهداف فئوية وشخصية، واتخاذ إجراءات قاهرة وطاردة ضد القوى والقيادات المعارضة..
بقاء أردوغان في سدة السلطة في تركيا منذ عشرين عاما، ولخمس سنوات قادمة.. ظاهرة غير ديمقراطية.!
لكننا في المقابل أمام جماعات دينية، لا تؤمن أصلا بالديمقراطية، وتكفر العلمانية، وما تزال، بدرجات متفاوتة، غارقة بالأفكار والرؤى والتصورات الكهنوتية، ومفتونة بفتوحات القرن الأول للهجرة، وشغوفة بالتجارب الجهادية المعاصرة.
ومع أن الديمقراطية والعلمانية مفاهيم وأدوات سياسية لا علاقة لها بالدين، إلا أن مثل هذه الجماعات لا يمكن أن تنفتح عليها من خلال تجربة "حزب الاتحاد الديمقراطي" في ألمانيا بزعيمته المستشارة "أنجيلا ميركل"، وعلى العكس، يمكن لتجربة "حزب العدالة والتنمية" وزعيمه طيب رجب أردوغان أن تكون ملهمة لها، بشكل أو بآخر، في هذا المقام.
وبالذات أن كثيراً من هذه الجماعات مرتبطة بهذا الحزب التركي، سياسيا وعقائديا وأيديولوجيا ورمزيا، وترى في زعيمه أردوغان خليفة للمسلمين، وبمثابة البطل الذي يمكنها من خلاله تحقيق حلمها الأثير بإعادة الخلافة العثمانية.!
هذه العلاقات العقائدية الحميمة، وإن كانت متجاوزة للوطنية، وتتم على حساب الأوطان، ترفع درجة إمكانية التأثر والتأثير، ففي أسوأ الأحوال هي تطرح أمام الجماعات الدينية سؤالا مقارنا: حول نجاح تجربة هذا الحزب الحديث، في مقابل فشل جماعات عمر بعضها يتجاوز القرن.؟!
لا يتعلق النجاح هنا بالنجاح في الوصول إلى السلطة، من خلال الاغلبية الانتخابية وصناديق الاقتراع، وهو شيء يمكن أن يجعل الديمقراطية، سلما للوصول إلى السلطة، ووسيلة انتهازية لغاية شمولية أو كهنوتية، كما فعلت النازية في ألمانيا، وحركة الانقاذ السلفية في الجزائر، وحتى حركة النهضة في تونس.
بل تتعلق جوهريا، بالنجاح في إدارة السلطة، بما يخدم المصالح الوطنية، والجوانب المدنية والتنموية والخدمية للشعب، ويحافظ على القيم والمكتسبات الوطنية، على رأسها الظواهر والمظاهر التي وصلت من خلالها الجماعة إلى السلطة.
على هذا المحك، تجربة "حزب العدالة والتنمية"، رغم اختلالاتها وجوانب قصورها، نجحت على الأقل على جوانب التنمية والاقتصاد، وإن ترنحت تركيا في هذه الجوانب في السنوات الأخيرة.
هذا النجاح يجعل من هذه التجربة، بالمقارنة مع تجارب جماعات الإسلام السياسي في المنطقة، متقدمة للغاية، هذه الجماعات ما زالت في الأغلب مشدودة، أيديولوجيا إلى التجربة الإسلامية الأفغانية، أكثر من انشدادها للتجربة الإسلامية التركية.
هذه الجماعات لديها كلها شبق عارم للسلطة، ووصل بعضها إليها، وشارك بعضها فيها، ويمثل الوصول إلى السلطة، بأي طريقة وبأي ثمن، نصيب الأسد من فكرها وجهودها وممارساتها السياسية.!
لكنها في المقابل خالية الوفاض تقريبا من أي تصورات أو برامج عملية لما بعد وصولها إلى السلطة، وهي مؤهلة مسبقا للفشل فيها، وهذا الفشل، حسب التجارب الماضية، كان باهظا وكارثيا ومأساويا بالنسبة للشعوب والأوطان.
من مصلحة هذه الشعوب والأوطان، كما هو من مصلحة هذه الجماعات، أن تتاثر هذه الجماعات بتجربة "حزب العدالة والتنمية"، في أمور منها، التكيف مع الأنظمة العلمانية، والتعايش مع التنوع والاختلاف، والقبول بالآخر، والاحتكام لصناديق الاقتراع، كقناعة ذاتية لا كمناورة سياسية..
وسواءٌ كانت تجربة "حزب العدالة والتنمية"، مناسبة كنموذج للإلهام، على جماعات الإسلام السياسي أن تعيد النظر بشكل جذري شامل، في وعيها وأجندتها واستراتيجياتها السياسية، بحيث تكون الأولوية مخصصة ليس لكيفية النجاح في الوصول إلى السلطة، بل لكيفية النجاح في إدارتها، وبشكل إيجابي يضمن لها العودة إلى السلطة في حال خسرت جولة انتخابية.
بعبارة أخرى: يُفترض أن تكون أولويات هذه الجماعات مخصصة ليس للأيديولوجيا، بل للبرامج السياسية العملية، وهذا الأمر، بطبيعة الحال، صعب للغاية عليها، "الطبع يغلب التطبع"، لكنه الشرط الصارم والمعيار الحازم لنجاح أي جماعة إسلامية.
يقتضي الأمر بالضرورة، كحد أدنى: القبول النهائي بالفصل بين الدين والدولة، أي بـ"العلمانية" كخلفية للحياة السياسية، وبالديموقراطية كأرضية وحيدة للصراع السياسي وتداول السلطة. وهو الشيء الذي يبدو أن حزب العدالة التركي لم يصطدم به حتى اليوم على الأقل.