د. صادق القاضي
أيوب طارش عبسي.. وتداعيات أغنيته الأخيرة.!
قدم الفنان اليمني الكبير "أيوب طارش عبسي" خلال حياته الفنية المميزة، تجربة غنائية حافلة بالنماذج الملهمة، وهذه التجربة خالدة، خارج المحددات الزمكانية. كما قال محمود درويش:
ينام المغني على أسطوانه
يخبئ أقماره في خزانه
وينسى زمانه.
وينسى مكانه.
ويحلم خارج أرض اللغات.
أغنيته الأخيرة. جيدة، مشكلتها فقط أنها جاءت بعد أن نام المغني وخبأ أقماره. هناك ضعف واضح في المستوى الجمالي لها. مقارنة بأغانيه السابقة.
لكن هذا لا يبرر الضجة الهائلة التي لم تتوقف في حدود تقييم هذه الأغنية، بل جعلت تجربته الفنية الطويلة برمتها على محك التقييمات الإيجابية والسلبية.!
معظم التقييمات من النوعين تفتقر لأي قدر من الموضوعية، كونها تنطلق من معايير نقدية تقييمية مجلوبة من خارج دائرة الفن الغنائي.
الغناء فن. وكأيً فن. للغناء موضوعه وعناصره وقواعده وقيمه ومقوماته الأساسية: الصوت، والكلمات الشعرية، واللحن، والموسيقا.. في تداخلها وتكاملها ضمن بنية عمل فني واحد هو "الأغنية".
فقط. على أساس توافر القيم الجمالية في هذه المقومات الأساسية. كلُّ على حدة، وفي تناغمها وتكاملها ضمن بنية الأغنية.. يمكن الحكم على أيً عمل غنائي.
كذلك على المستوى الجمعي، في الحكم على مجمل التجربة الغنائية لأيً مغنٍّ، وفيما يتعلق بالفنان "أيوب طارش"، فقد امتلك في معظم أغانيه وأناشيده الوطنية:
- الصوت الساحر الذي لا يمكن التقليل من جماله.
- والحس الجمالي الرفيع بالشعر الغنائي، الذي جعله ينتقي أجمل القصائد الغنائية، ويغنيها.
- والبراعة المدهشة في التلحين. أجمل ألحان أغانيه وضعها بنفسه.
- وأخيرا. كان عازف عود من طراز خاص، يلعب بالأوتار والقلوب.
وهكذا.. لم يكن أيوب طارش، كفنان. بحاجة إلى شيء آخر مهم بالضرورة، ولا أهمية هنا للخوض في الجوانب الأخرى لشخصه وشخصيته، التي يمكن تلمس بعضها على الأقل من المقابلات الشخصية له في وسائل الإعلام.
يمكن لأي متابع لهذه المقابلات أن يلاحظ بجانب الشخصية الإنسانية العفوية البسيطة لأيوب أنه مثلاً على الجانب الثقافي. شخص عادي بسيط ومتواضع الفكر والثقافة.
لكن هذا الأمر لا يقلل من أهميته الفنية، لا يٰشترط في المغني أن يكون عالما أو أديبا أو فيلسوفا أو مثقفا من العيار الثقيل.. يكفي أن يكون ملما في مجال فنه، وهذا يكفيه وزيادة.
وبطبيعة الحال كان أيوب طارش وطنيا، ويحب الوحدة اليمنية، لديه أغانٍ كثيرة للوطن والوحدة، منها أغنية كان قد غناها قبل حوالي العقدين، لكنها لم تشتهر حينها لأسباب تتعلق بمستواها الفني.
ما حدث مؤخرا، وربما للأمر علاقة بالاستقطابات السياسية الراهنة المحتدمة حول الوحدة. أن قام أيوب بتسجيلها وإطلاقها من جديد. ومن الطبيعي أن تفشل مجددا. لنفس الأسباب إضافة لأسباب جديدة.
مشكلة هذه الأغنية تكمن حصراً في تدني المستوى الجمالي لها على الجوانب الفنية للغناء المشار إليها سلفا: ضعف الصوت بسبب شيخوخة المغني، وضعف الكلمات، وضعف اللحن.. ولا شيء آخر.
وهذه المشكلة قاصرة على هذه الأغنية وبشكلٍ ما على قليل من أغانيه القديمة، بحيث لا يجوز الحكم من خلالها سلبا على مجمل التجربة الفنية للفنان أيوب. كما فعل بعض الخائضين في هذه الضجة.!
كما لا يجوز الحكم على هذه التجربة إيجابا من خلال المعايير السياسية أو الوطنية أو الدينية أو غيرها من الاعتبارات المتعلقة بالمضمون.
قيمة التجربة الفنية لأي فنان. تقاس بالمعايير الفنية البحتة. يمكن لأي درويش ديني أن يغني قصيدة "أحباب وادي جيرون" لأحمد بن علوان، لكن "أيوب طارش عبسي" جعلها أعجوبة.
فنانون كبار لحنوا وغنوا النشيد الوطني. لكن الأداء الفني لأيوب طارش كان مبهرا. ليس بسبب القيمة الوطنية، بل لتوافر وتكامل القيم الجمالية في هذا الأداء.
ليس موضوع الأغنية هو ما يجعل المغني مميزا.. فنحن جميعا نحب الوحدة كما نحب أيوب طارش، ونتمنى عليه أن لا يتورط في هذه السن الطاعنة في أغانٍ جديدة تشبه صهيل الجواد العجوز.
أيوب طارش عبسي فنان كبير. صحيح ليس على المستوى العربي. لكن يمكن القول بكل ثقة، ودون الانتقاص من أحد. إنه أهم رقم في الغناء اليمني الحديث.