د. صادق القاضي
بين المثقف ورجل الدين: التنبؤات المستقبلية بشأن إسرائيل.!
في عام "1946م"، أصدر المفكر العربي الكبير "عبد الله القصيمي" كتابه الريادي "هذي هي الإغلال"، وتنبأ فيه بأشياء كثيرة، منها ما يتعلق بالسياسة، ومنها ما يتعلق بالعلم والتكنولوجيا، ومنها ما يتعلق بالمستقبل الحضاري لبعض الشعوب.
على الصعيد السياسي، ارتبطت أبرز نبوءاته في هذا الكتاب، بقيام دولة إسرائيل. كان عموم الشارع العربي حينها يستبعد تماما، نجاح المشروع الصهيوني الدولي المعروف من قبل بداية القرن، في إقامة دولة لليهود في فلسطين.!
لم تكن تلك الثقة العربية العالية باستحالة قيام دولة إسرائيل. تستند، كما ينبغي، على عوامل موضوعية جادة، كأن يكون العرب مثلاً قد حسبوا كل شيء، واتخذوا مسبقا إجراءات وقائية، كافية للحيلولة دون قيام هذه الدولة الغريبة في المنطقة.
بل. على العكس. كانت تلك الثقة المطلقة تستند فقط على سوء فهم للعصر والمرحلة والحركة الصهيونية والسياسة الدولية، وعلى انطباعات ومأثورات تراثية فيها تهويل لقوة العرب والمسلمين، وتهوين واستخفاف باليهود وبإمكانياتهم.
في المقابل كان القصيمي عارفا موسوعيا بثقافة العصر، ومتابعا دقيقا لحيثيات المرحلة، وقارئا موضوعيا للتحولات الدولية والإقليمية، وخبيرا فذا بالشئون الدينية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية العربية والإسلامية والدولية.
لهذا صحت تنبؤاته وخابت توقعاتهم، الفرق دائما بين التنبؤات الناجحة والخائبة يكمن في الأساس الذي تستند كلاهما عليه، التنبؤات الناجحة تستند على أساس معرفي موضوعي علمي، في حين تستند التنبؤات الخائبة على أساس الخرافة أو الوهم أو التفكير بالأماني.
وما تزال الظاهرة التنبؤية هذه بشأن مستقبل إسرائيل حاصلة في السياق العربي، بين المثقف من جهة، ورجل الدين من جهة أخرى، وإن كان المثقفون صامتين هذه المرة، بينما يطلق رجال الدين، بين فترة وأخرى. توقعات مثيرة بزوال دولة إسرائيل. بل إن بعض رجال الدين يحددون موعد هذا السقوط بدقة وثقة عجيبة.!
على سبيل المثال. الشيخ الفلسطيني "بسام الجزار"، هذا الرجل، يثق بشكل مطلق بالإعجاز الرقمي للقرآن، ويضاجع الأماني العامة العاجزة بزوال دولة إسرائيل.. وبناءً عليها تنبأ قبل سنوات، بزوال دولة إسرائيل من الوجود عام 2022م. 1443هـ.!
ويظل الشيخ عبد المجيد الزنداني، هو نجم النبوءات المثيرة، وأبرز حواة الإسلام السياسي، وكما يلوي الشيخ أعناق أحاديث نبوية وآيات قرآنية، ليقوّلها ما لم تقل، يتطفل على العلم، وأبحاث مزعومة، ويلفق على علماء ومراكز أبحاث معروفة.!
فشل هذا الرجل في السنة الإعدادية الأولى لدراسة الطب والصيدلة، ومن حينها طلق العلم، واعتنق العلوم الزائفة، كالإعجاز العلمي للقرآن والأحاديث النبوية، وعاد رئيسا لجامعة فيها قسم للطب والصيدلة والطب النبوي.!
ليس الأسوأ في هذه الجامعة أنها كانت مزرعة لتفريخ العناصر الإرهابية، بل إنها كانت مصنعا للأدوية الخرافية التي يصنعها الشيخ للأمراض المستعصية كالسرطان والكبد الوبائي والإيدز، وأجهزة للكشف عن العالم السفلي.!
الأخطر هو المنهج العجيب في استنطاق الآيات والأحاديث، واختراع الأدوية والإعلان عن الاكتشافات والتنبؤات، والتطفل على العلم والتحرش بالمؤسسات العلمية، من حيث كونه خرافيا وخاليا تماما من المنطق والمنهجية والأمانة العلمية.
فيما يتعلق بإسرائيل، يدرك الشيخ علاقتها الوجودية بأمريكا والغرب، وبالتالي يرى أن زوالها مرهون بزوال أمريكا والغرب، وعلى أساس منهجه الفنتازي. تطفل على علم الجغرافيا والجيلوجيا والطيور. وتنبأ، عام 2014م, بزوال الغرب خلال مدة قريبة قصيرة بين 15 : 20 سنة.!
والسبب -حسب مصادره العلمية المزعومة- هو عصر جليدي سيطمر بالجليد قريبا كامل جغرافيا أوروبا وأمريكا، ويجعلها غير صالحة للحياة، وكما تهاجر الطيور عنها سيهاجر البشر إلى مناطق أخرى. منها الشرق الأوسط.!
علماء وقادة الغرب، يعرفون -حسب قوله- هذا الخطر الوجودي الداهم، ولم يوضح لماذا لم يبدأوا بالهجرة عن تلك الأرض الموعودة باليباب، رغم قرب الموعد الذي لا يفصلهم سوى سنوات قليلة عنه: 2029 : 2034م.!
في سياق متصل كان الشيخ قد تنبأ استنادا على أحاديث نبوية أن الشرق الأوسط سيصبح قريبا فردوسا أرضيا مثاليا للحياة، وسيكون ضمن دولة الخلافة الإسلامية التي تنبأ أنها ستتشكل قريبا، وستمتد من الصين إلى المحيط الأطلسي، وأن هذا سيحدث بالتحديد عام 2020م.!
مرةً أخرى. ليس أسخف ما في هذه النبوءة هو تورط الرجل في تحديد تاريخ قريب لها، ما جعلها تنكشف بسرعة، بل الأرضية الزائفة التي انبنت عليها، بعض أفلام الخيال العلمي تحدد تاريخا قريبا للحدث، لكنها تظل مدهشة حتى بعد أن يتجاوز الزمن تاريخها المفترض.
الخيال العملي، مقارنة بالخيال الكهنوتي. أكثر علمية ومنطقية وقابلية للتحقق. بعض المخترعات التي تخيلها كتاب روايات الخيال العلمي تحققت لاحقاً، وعموما التنبؤات المستقبلية على درجات، من الموضوعية وإمكانية التحقق، أعلاها التنبؤات القائمة على الإحصاء والعلم والمعرفة المنهجية.
وهكذا تنبأ القصيمي عام 1946 في كتابه المذكور، بصعود الإنسان إلى الفضاء وسطح القمر، وبمستقبل علمي تكنولوجي سيصل حد قيام العلم بصناعة أعضاء في الجسد البشري، وقد تحققت هذه النبوءات بعد سنين أو عقود قليلة من كتابتها.
وحول توقعه قيام دولة إسرائيل، تنبأ القصيمي أيضا بشكل مدهش بأن هذه الدولة ستنتقل، بعد تكونها. من حضن بريطانيا إلى حضن أمريكا، وأن مستقبلها السياسي والعسكري سيكون متفوقا على نظيره العربي.!
كان الرجل يقرأ الواقع المحلي والدولي جيدا، ويمتلك بصيرة نافذة، كزرقاء اليمامة، ومثلها كان يحذر قومه من خطر قادم، لكن قومه لم يكونوا يفكرون بنفس تلك العقلية الاستشرافية، ولم يتعاملوا جديا مع الأمر إلا بعد أن وقع الفأس في الرأس.!
في المقابل كانت الصهيونية، ومعها القوى الغربية الكبرى، تخطط لهذا المشروع، وتعمل ليل نهار لإنجاحه، وتتنبأ بشكل موضوعي بالرفض العربي والإسلامي، وتستعد له، وهكذا نجحت في تحقيق المشروع، والدفاع عنه في الحرب العربية الإسرائيلية، نكبة 1948م.