حسن الدولة
الحكم في الإسلام.. النص الديني والدولة المدنية
يحتج دعاة الدولة الثيوقراطية بالآيات الثلاث التي تنص على: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (... فأولئك هم الكافرون)، (... فأولئك هم الظالمون)، مع أن تلك الآيات تخاطب أهل الكتاب وهي آيات متتابعة يقول فيها سبحانه:
﴿وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون﴾.
و(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ ... وتنتهي بقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس .... وقوله عز من قائل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون).
علما أن الحكم هنا متعلق بالدين كحاكم، وأما السياسة فقط جاءت بلفظة الأمر وهو الفصل فيما يختلف فيه الناس في الدنيا والحكام فيه هم أولو الأمر، وفي أمور الأمر (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
وقد قال القرشيون للرسول إذا ما آمنا بك فما يكون لنا من الأمر، اي السلطة الدنيوية فجعلها له للأمة فقد قال المفسرون لو وضعنا لفظة الناس أو الأمة مكان لفظ الجلالة لما تغير المعنى كقوله: (من يقرض الله قرضا حسنا) أي من يقرض الناس، لأن الله غني عن العالمين، لكن دعاة الدولة الثيوقراطية ينتزعون آيات من سياقها ويعملون على لي عنق النصوص لتتوافق مع أهوائهم.
وسوف نتناول الثلاث الآيات المذكورة آنفا في ضوء كلام المفسرين، وأما الأحاديث السياسية فهي تقر السياسة نصاً بالطبيعة السياسية للحكم، وأن هذه الطبيعة مستقلة عن الشأن الديني بمتطلباته وضروراته، وأنها بذلك مستمرة في سيرورتها إلى منتهاها، امتثالاً لمشيئة الله التي لا راد لها تبدأ هذه السيرورة بخلافة النبوة، وتنتهي بالملك العضوض.
من ناحية ثانية، نجد "أن سردية ومضامين هذه الأحاديث عن التاريخ والحكم، ومؤداها في الأخير إنما هو إقرار ضمناً -لا تصريحاً- بانفصال الديني عن السياسي، وتؤكد تناقض الملك (الدولة السياسية) مع الخلافة (الدولة الدينية) وخواتيم هذه السيرورة تنتهي وفقاً للأحاديث السياسية ذاتها، بمختلف رواياتها بتراجع الخلافة، أو الدولة الدينية لمصلحة دولة الملك، أو الدولة السياسية.
تضاف إلى ذلك حقيقة أخرى، وهي غياب مفهوم الدولة بدلالته الدستورية والسياسية، وكإطار للحكم في القرآن الكريم تماماً، يرد في القرآن حض على قيم ذات صلة بالحكم، مثل العدل والمساواة، والقسطاس، والشورى، وغيرها من المفاهيم.
لكن الحض عليها في هذا السياق ليس باعتبارها آليات أو شروطاً سياسية أو قانونية ملزمة لنوع معين من الحكم، وإنما باعتبارها قيماً إنسانية عليا يستحسن التمسك بها، وأن من يفعل ذلك سيثاب عليه.
يتسق مع هذا المعنى أن الأحاديث السياسية، وهي تقر بحتمية التحول من الدولة الدينية إلى الدولة السياسية، تحض الناس على الطاعة إلا في حال واحدة، وهي معصية الله، لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
أي أن انحراف الحكم في أمور الدنيا لا يجيز العصيان.
أما الانحراف في أمور الدين فلا تجوز معه الطاعة.
وفي هذا ما يمكن اعتباره تمييزاً واضحاً، أو فصلاً لمتطلبات الديني وضروراته عن متطلبات وضرورات السياسي الدنيوي.
ومن هنا يتبين لنا غياب مفهوم الدولة في القرآن (وهو النص المؤسس والمصدر الأول للتشريع) تتضافر معه دلالات الأحاديث السياسية، للتأكيد أن الطبيعة السياسية أو الدنيوية (عكس الدينية) لمسألة الحكم هي شأن من شؤون الدنيا، وفقا لحديث (أنتم أعلم بشؤون دنياكم)، وأن تناول هذه المسألة والتعامل معها خاضعان قبل أي شيء آخر لمتطلبات ونواميس هذه الطبيعة وليس لغيرها.
في الوقت نفسه، نجد أن التجربة السياسية العملية في التاريخ الإسلامي، منذ السقيفة حتى الآن، تتضافر بدورها مع الأحاديث النبوية ومع القرآن، في تأكيد أن مسألة الدولة والحكم في الإسلام هي في أصلها مسألة سياسية دنيوية متروك شأنها للناس وليست مسألة دينية، وبالتالي خضعت في نشأتها وتحولاتها لنواميس الدنيا، والمجتمع الإنساني قبل خضوعها لأي شيء آخر.
السؤال هنا: ألا تنطوي هذه الملاحظات أولاً على أن النصوص الإسلامية التأسيسية تقر في نهاية المطاف بانفصال الديني عن السياسي؟
وثانياً أن هذا الانفصال، تبعاً لذلك، كان ولا يزال سمة بارزة من سمات التاريخ السياسي الإسلامي؟
طبعاً لا بد من استثناء ما روي عن عثمان بن عثمان قوله حين طالبته الأمصار بالتنحي عن السلطة فقال: (والله لن أخلع قميصا ألبسنيه الله) وهو قول يناقض قوله: (بأن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن) فالأول نحى منحى كنسيا، والثاني سياسيا.
السؤال المطروح أكبر من أن تفيه مقالة منشورة على صفحة على الفيسبوك.
لذلك من المناسب وضع استدراك مهم على السؤال، وقبله على الملاحظات، انطلاقاً من الآية القرآنية، التي تقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)- (المائدة: 44).
يقول المفسر الشهير أبوعبد الله القرطبي في تفسير الآية: "والكافرون والظالمون والفاسقون " نزلت كلها في الكفار.
ثبت ذلك بنص الكتاب.
جاء في صحيح مسلم من حديث البراء.
وعلى هذا المعظم.
فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة.
واختاره النحاس، قال: "ويدل على ذلك ثلاثة أشياء؛ منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله: للذين هادوا، فعاد الضمير عليهم.
ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك.
ألا ترى أن بعده وكتبنا عليهم. فهذا الضمير لليهود بإجماع.
(الجامع لأحكام القرآن، المجلد الثالث، ج 5-6، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ 1988، ص 124.
ومما سبق يتبين لنا أن الدولة في الإسلام دولة مدنية فلا رهبانية في دين الله، وأن الدنيا دار ابتلاء، والعدل أساس الحكم، وحيث أن الله هو ملك الملوك، وصاحب السيادة، فهو يملك كل شيء.
والملكية الإنسانية في مثل هذا السياق ملكية مجازية، وليست حقيقية؛ والمالك الحقيقي للأمر هو الله فقد فوضه للإنسان في الدنيا ويومئذ الأمر لله؛ ولا يحق لجماعة من البشر أن تفرض قيموتها على دين الحي القيوم على دينه.
ومن يرفع خطابه الديني في مواجهة الشعب فإنه خارج عن الملة، فالدين لله والوطن للجميع وقتال من يفرض تلك القيمومة واجب حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله لقوله سبحانه: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلِّه).
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك