د. صادق القاضي
"صناعة الكتاب" في اليمن.. أزمات وأطراف وبدائل.!
لا شك أن "الحياة الثقافية" في اليمن ليست بخير، باعتبارها أحد أكثر جوانب الحياة العامة تأثرا وتضررا من النكبات السياسية، والكوارث والعسكرية، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية.. منذ اضطرابات 2011م، وبالذات منذ جائحة 2015م، وقد انعكست هذه الأضرار. بشكل خاص. على جانب "صناعة الكتاب": تأليفا وطباعة ونشرا واقتناء وقراءة.. هذه الصناعة الخلاقة تمر في هذه المرحلة. مرحلة ما بعد النكبة. بأسوأ مراحلها في التاريخ الحديث:
وتيرة طباعة الكتب هبطت إلى أدنى مستوياتها، معظم دور النشر أقفلت أبوابها، معظم المؤلفين توقفوا عن نشر أعمالهم، وربما عن التأليف، معظم القراء لا يمتلكون القدرة الشرائية، بعضٌ من كبار المثقفين والكتاب باعوا حتى مكاتبهم التي كونوها تدريجيا طوال أعمارهم.. حتى القادرين على طباعة كتبهم يواجهون الكثير من العوائق والمصاعب المحبطة..!
للأزمة أبعاد عامة تتعلق بالحالة الثقافية في عموم العالم العربي، وفق خلفية تاريخية تمتد لقرون، ومن سخرية القدر أن "مرحلة النهضة" التي دشنها اختراع "جوتنبرج" للمطبعة في الغرب عام 1447م. تزامنت مع دخول العالم العربي مرحلة قرسطية أكثر ظلامية، دشنتها "الامبراطورية العثمانية" بسيطرتها على أجزاء واسعة من العالم العربي والإسلامي، وقيامها بتحريم استخدام المطبعة، وتجريم الطباعة.!
وعلى الرغم من دخول أول المطابع إلى اليمن في أواخر القرن التاسع عشر، فقد ظلت الطباعة محتكرة من قبل سلطات الاستعمار، وبالذات العثماني ثم النظام الإمامي في الشمال. وحتى بعد رحيلهما ظلت البنية التحتية لصناعة الكتاب متمثلة بالواقع التعليمي والثقافي العام للمجتمع، متخلفة. اليمن كما نعرف من أعلى بلدان العالم في نسبة الأمية التعليمية والثقافية والمهنية، وأقلها إنتاجا للمعرفة وقراءة للكتب والمجلات.!
وما تزال كذلك، وإن كانت ثورتا سبتمبر وأكتوبر قد أحدثتا حراكا تعليميا وثقافيا فارقا في هذا السياق، فبدأت طباعة الكتاب اليمني تشهد نوعا من الانتعاش مدعوما من الدولة التي شاركت بقوة في نشره وطباعته، منذ سبعينيات القرن الماضي، كقيام وزارة الإعلام والثقافة في صنعاء بتبني مشروع الألف كتاب، وفي نفس الفترة قام "مشروع الكتاب اليمني" في عدن، بطباعة مئات الكتب اليمنية.
وفي الأثناء بدأت المطابع التجارية الخاصة بالانتشار، وهناك اليوم المئات منها، العشرات منها تشارك في المعارض الدولية للكتاب، لكن. رغم انتشار المطابع في اليمن. كانت طباعة الكتاب اليمني وظلت حتى اليوم. تتم في معظمها في الخارج. وبالأخص في لبنان وسوريا ومصر. والسبب هو مستوى الجودة. صناعة الكتاب في اليمن أقل جودة طباعية: من حيث الماكينة والورق وعتبات الغلاف والتنسيق والصف والإخراج والتوزيع..
بل قد يحدث أحيانا حتى في أرقى المطابع المحلية تقصير من جانب معين. كالمراجعة اللغوية. كما في طباعة "الأعمال الشعرية الكاملة" للشاعر اليمني الكبير "عبد الله البردوني" (1- 12) برعاية وزارة الثقافة، وإصدار "الهيئة العامة للكتاب" صنعاء , ط 1، 2002م. هذه الطبعة الفخمة مليئة بمئات الأخطاء المطبعية، وهي أخطاء قاتلة تضر بشكل كبير بالقيمة الفنية للقصائد، وتسيئ إلى شعرية الشاعر.!
لهذه الأسباب وغيرها ظلت طباعة الكتاب في الداخل اليمي متعثرة ومحدودة، وتعاني الكثير من الأزمات والتحديات.. إلى أن حدثت الطامة الكبرى على الكتاب اليمني والحياة العامة في اليمن عموما وهي اضطرابات 2011م، ثم جائحة 2015م، انعكست هذه الكوارث بشكل عميق على كل جوانب ومستويات الحياة الثقافية عموما، وصناعة الكتاب خصوصا. على سبيل المثال: "دار عبادي للنشر" كانت أهم وأكبر ناشر في اليمن، ولم تصدر حتى اليوم أي كتاب منذ بدء الحرب في آذار/ مارس 2015.!
من الأشياء الجيدة في هذا المقام، مبادرة بعض اليمنيين لإنشاء دور نشر في الخارج، وبالأخص في القاهرة، كـ"دار أروقة"، و"دار عناوين" وغيرهما. طبعت هذه الدور أعدادا كبيرة من الكتب اليمنية في مختلف فصائل المعرفة، وخاصة للشباب، علاوة على أن بعضها يشجع التأليف بإقامة مسابقات لأفضل الأعمال غير المنشورة، ويطبع الفائز منها، مع جائزة مالية كما أظن، وإن كانت هذه المسابقات تركز على النصوص الإبداعية فقط.
ومع ذلك. هناك سلبيات لدور النشر اليمنية الخارجية هذه، منها أنها تهتم غالبا بالأسماء اليمنيّة الرائجة والمشهورة، كعمل دعائي لها على حساب القيمة النوعية للأعمال والمؤلفين، بجانب أنها لا تأبه بالحقوق المادية للمؤلف، وهي بهذا تنسف "اقتصاد التأليف" من الأساس، فضلا عن كون التوزيع والنشر في الخارج يجعل الكتاب اليمني يتوزع غالبا في الخارج لا داخل اليمن. بات الكتاب اليمني يصل إلى بغداد والجزائر والمغرب والبحرين، ولا يصل إلى صنعاء أو عدن أو تعز..
في كل حال. تظل نسبة عالية من المؤلفين في اليمن غير قادرة على طباعة كتبها بشكل ملائم في الداخل أو في الخارج، ما يدفعهم للبحث عن بدائل للنشر، وهناك عادة بدائل من أهمها داخل اليمن القيام بطبع كتبهم لدى مراكز التصوير العادية للوثائق والمستندات، بشكل متواضع، وبأعداد محدودة، 50 أو 100 نسخة بالكثير. يهديها المؤلف للأصدقاء.!
هذه الطريقة تناسب محدودي الدخل، ولأن معظم المؤلفين في اليمن باتوا من هذه الفئة باتت هذه الطريقة، رغم رداءتها وشعبويتها.. هي الأكثر رواجا لطباعة الكتب في داخل اليمني، وحسب مسئول في "دار الكتب الوطنية الحكومية بصنعاء": فإن 80% من أرقام الإيداع التي منحتها الدار للكتب المطبوعة في صنعاء خلال الفترة من 2016 - 2020. مُنحت لكُتب طُبعت في مراكز التصوير المستندي. بصنعاء.!
لكن البديل الأكثر أهمية وكفاءة واستراتيجية هنا، وفي كل حال. هو النشر الإلكتروني. إذ تتجه أعداد متزايدة من المؤلفين اليمنيين إلى هذه الطريقة، فهي بجانب كونها أسهل بكثير، ومجانية، بل ومربحة أحيانا.. تنشر الكتاب على المستوى العالمي.. بات المؤلف قادرا على نشر وبيع كتابه بشكل مباشر. عبر الطريقة الرقمية، دون الحاجة لوساطة دور النشر. هذا بجانب ظهور دور نشر رقمية بشكل خالص.
بالنسبة لدور النشر الورقية. وجود نسخة رقمية مجانية من كتاب. تجعل معظم المشترين تستغني عن شراء النسخة الورقة، وهذه كارثة لها، وعموما الشكل الرقمي للكتاب منافس وجودي مصيري للكتاب الورقي، وسيكون البديل الحتمي عنه. لا محالة، وهذه الظاهرة تخدم المعرفة.. وإن كانت تضعنا هنا أمام تدمير عميق وشامل ومنهجي لكيان وكينونة الكتاب الورقي، كصناعة تقليدية باتت مهددة بالاجتثاث من جذورها.