د. صادق القاضي
فكري قاسم.. وملامح الشخصية الكتابية
لا حاجة لتعريف المعرّف في هذا المقام، فربما لا يوجد قارئ في اليمن لا يعرف من هو الكاتب "فكري قاسم"، وحتى على الصعيد الشخصي. ربما لا يوجد قارئ متابع يجهل أنه شخص "جحملي" "تعزي" يتحدر من أسرة بسيطة، ونشأ في ظروف صعبة، ولديه أم عظيمة كانت وراء نجاحه، في مقابل أنه لم يقصر تجاهها، وقام بتخليدها من خلال الكثير من كتاباته.
وكما هو على الصعيد الشخصي إنسان عصامي مثابر مكافح ودود.. من نوع خاص. "فكري قاسم" على الصعيد الإبداعي مبدع من نوع خاص. كأحد أبرز الأقلام اليمنية النادرة المثقفة التي امتلكت اهتمامات ومواهب متعددة في كثير من فصائل الكتابة. أبرزها: المقال، والقصة والمسرحية، والنثر الشعري..
وكما يمتلك الرجل شخصية اجتماعية بملامح سمراء بشوشة مميزة.. يمتلك شخصية كتابية بملامح بنيوية أسلوبية مميزة.. حاضرة بقوة على امتداد مسيرته الإبداعية، ومهيمنة على مجمل تجربته الكتابية، وهي بالنسبة لجمهوره على صعيد التلقي بمثابة "علامة أسلوبية" خاصة، و"ماركة كتابية" مسجلة.
تتميز هذه "الماركة الكتابية" بعدة سمات أسلوبية.. أكثرها أهمية قائم على "الجمع الذكي بين المتناقضات، والمزاوجة العبقرية بين الأضداد". على جانبي الشكل والمضمون. كالتالي:
• الجمع بين اللغة الفصيحة والعامية: المزاوجة المقتدرة بين المستويات اللغوية، إمكانية صعبة، وموهبة نادرة، في جميع الآداب القومية، وذات مردودات كيفية وكمية عالية، وبالذات على مستوى التلقي، بجعل النصوص قريبة للغاية من القراء، بمختلف شرائحهم ومستوياتهم الثقافية والمعرفية.
هذه التقنية مكنت الكاتب من التوغل عميقا في ظواهر الواقع الشعبي اليمني، بقدرة عجيبة على تصوير ملامح الأشياء وطباع الشخوص، واستكناه الأفكار والعواطف، ورصد السلوكيات والمفارقات، والتعبير بكفاءة رمزية عالية عن تفاصيل وأبعاد الحدث وإشكالات الواقع الموضوعي.
• الجمع بين البساطة والتعقيد: وهي سمة فذة تتجلى لدى الكاتب على جانبين:
- على جانب الشكل: بساطة وسلاسة وعفوية.. الكتابة. قد تشعرك أنك أمام بنية نصية بسيطة سهلة يمكن لأي شخص أن ينتج مثلها، في الوقت الذي يستعصي فيه هذا الأسلوب وهذه البنية عن المحاكاة والتقليد، وهي عموما خاصية كانت محط إعجاب النقاد القدامى والمحدثين الذين عبروا عنها تحت مصطلح "السهل الممتنع".
- على جانب المضمون: إذا شعرت وأنت تقرأ أحد مقالات أو قصص الكاتب أن الموضوع لا يعدو أن يكون مسألة خاصة واضحة عابرة، فعليك أن ترجع البصر كرتين، لتدرك أن هذه المسألة مجرد إشارة لقضية عامة، وطنية أو إنسانية.. أكثر تعقيدا مما تبدو عليه عفويا في الوهلة الأولى.
• الجمع بين الملهاة والمأساة: كتجلٍ عملي للجمع بين الوضوح والعمق، وبين البساطة والتعقيد.. "السخرية" هنا ليست مقصودة بذاتها، بل كأسلوب أبلغ من غيره في التعبير عن "المآسي"، فوراء كل ضحكة للكاتب الكبير وجع كبير، اختار التعبير عن مرارته "التراجيدية" من خلال "الكوميديا"، وهي موهبة عظيمة نادرة في العادة.
لكن. في المحصلة. النص أكثر من مجرد "طبخة" أدبية يمكن إنجازها من خلال الجمع بين عناصر وأدوات فنية، فكما يتفاوت "الطباخون" يتفاوت الكتّاب، والعبرة في كل مرة، تكمن في الأسلوب، وسر المهنة الذي ينعكس على الطعم والنكهة، بخصوصية تعبر عن الطباخ أكثر مما تعبر عن المواد الخام التي استخدمها في الطباخة.
وبالتالي. نحن هنا أمام "طباخ" أسلوبي فريد من نوعه، وما يميزه ليس الجمع بين المتناقضات، وهي السمة الأكثر اضطرادا في تجربته. بل الأسلوب الخاص في الجمع بينها، كأداة أسلوبية بارعة لصناعة المفارقة، والتعبير المدهش عن التناقضات الكامنة في صميم الواقع اليمني، على مختلف الجوانب والمستويات.
وعلى هذا المحك أنجز الكاتب أهم استحقاقاته الإبداعية الفنية على مستوى اليمن. باعتباره الرقم الأول في مجال "الكتابة الساخرة"، وهي أولوية لا يشاركه فيها، من وجهة نظري. غير الأستاذ الكبير "عبد الكريم الرازحي"، كثنائي إبداعي ساخر. لكلٍّ منهما شخصيته الفنية المستقلة، ويشكلان معا مدرسة يمنية كتابية متفردة في هذا المجال.