"إن ما نشاهده حالياً من توالي بروز كيانات في المحافظات التي يطلق عليها المناطق المحررة ليس أمراً إيجابياً".
يعيش اليمنيون تحت وطأة ضغوط نفسية ومادية لم يشعروا بقسوتها في أحلك الأوقات منذ ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962 في شمال البلاد، و30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 حين غادر البريطانيون جنوب اليمن بعد احتلال استمر لما يقارب 130 سنة، والواقع أن ما كان يعرف حتى 22 مايو (أيار) 1990 بشمال اليمن وجنوبه اختلفا على طريقة إدارة البلاد بين سلطة مركزية متحكمة في كل ما يمس حياة الناس جنوباً مع التمسك بشيء من الإرث البريطاني في تسيير الحياة العامة، في حين ظل الشمال يدار بتحالفات مدنية – قبلية- عسكرية، لأن إرثه الإداري لم يتجاوز ما أدخله العثمانيون في الفترة القصيرة التي سيطروا فيها على بعض مناطقه، وكذلك نظام الإدارة المصرية الذي جاء مع وجود القوات المصرية بين عامي 1962 و1968.
تمكنت السلطة في جنوب اليمن من التحكم بقسوة في كل ما يدور داخل نطاقها الجغرافي، بينما كان الأمر أكثر صعوبة حتى عام 1975، حين تمكن الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي من فرض سلطة المؤسسات في الشمال داخل حدود ما كان معروفاً بالجمهورية العربية اليمنية، وخاض حينها صراعاً حسمه بسرعة مع كبار مشايخ القبائل الشمالية وأخضعها لسلطة العاصمة صنعاء لفترة لم تتجاوز العامين انتهت باغتياله مع أخيه في أكتوبر (تشرين الأول) 1977 قبل زيارة إلى عدن قيل إنه كان مخططا خلالها إعلان توحيد الشطرين.
استمرت الأوضاع مستقرة في الجنوب حتى وقعت ما صارت تعرف بأحداث يناير (كانون الثاني) 1986 التي اقتتل خلالها قادة الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم حينها، ولم يتمكن المنتصرون من إيجاد صيغة تعيد الوئام إلى الجنوب وظلت آثار تلك الأيام مسيطرة على السلطة الجديدة ولم تستطع الخروج من دائرة الأحقاد والرغبة في الثأر رغم رفع شعارات التسامح والتصالح.
وفي الشمال لم تتمكن السلطة في صنعاء من الانفراد بالحكم، بل على العكس سمحت لكبار رجال القبائل بالمشاركة بصيغ مختلفة وعمدت إلى تقوية نفوذهم في مناطقهم وخارجها، ومارست سياسة المراضاة والتسويات والمنح المالية خشية أن يؤدي الصراع المسلح معهم إلى الدخول في معركة لم تكن واثقة من أنها ستنتصر فيها. وكانت بنية الجيش نفسه تجري بخطوط مناطقية رغم عدم انتفاء الحس الوطني عنها، لكنه كان يأتي تالياً لمصالح بعضهم الضيقة.
إن الحديث عن "الدولة" بمفهومها العلمي غير ممكن، إذ إنه في كثير من الدول العربية لم يرتبط بقوة المؤسسات وثباتها وتراكم الخبرة عند عناصرها، إنما ارتبط بقوة أو ضعف الشخص الأول في هرم السلطة وليس على استقرار المؤسسة وتراكم خبرتها وتجاربها. وكانت السلطة تقوى وتضعف بحسب شخصية الحاكم، وهنا جرى خلط ما زال قائماً بين مفهومي "الحكم" و"الدولة" وهما يختلفان في المعنى والتطبيق والغاية.
لقد أفصحت الاحتجاجات في فبراير (شباط) 2011 في الدول العربية التي مر عليها إعصار الربيع العربي، فبين هشاشة المؤسسات القائمة وأيضاً عدم انسجام مكونات الحكم والصراعات بينها وخصوصاً القوات المسلحة فوجدنا في الحال اليمنية أن قادة عسكريين انشقوا عن سلطة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، ولكنهم لم يغادروا المعسكرات التي كانوا يسيطرون عليها وبدا الأمر طبيعياً عند كثيرين، لأن هذه القيادات كانت متعددة الولاءات داخل دائرة الحكم.
وأدى الاختلال البنيوي الفاضح إلى تحول الناس من التشبث بأستار السلطة ومؤسساتها إلى البحث عن جدران محلية تتشكل تحت سمع وبصر الحاكم أو مجموعة الحكام كما هي الحال اليوم، وهو مسار طبيعي يتخذه المواطنون تحت وطأة غياب القانون الذي يضبط حركتهم وعلاقتهم مع السلطة الحاكمة.
وإن ما نشاهده حالياً من توالي بروز كيانات في المحافظات التي يطلق عليها اسم "المناطق المحررة" ليس أمراً إيجاباً، لأنه جاء في الواقع كرد فعل فقط على مساعي "المجلس الانتقالي" للانفراد بالسيطرة عليها وهو ما اعتبرته شخصيات وقوى اجتماعية لها حضور سياسي وقبلي، محاولات للانفراد بالتمثيل وحجب بقية الأصوات والتوجهات.
وسيؤدي استمرار هذه الظاهرة إلى مزيد من الشرذمة والاستقطاب، إضافة إلى أنها ستؤدي حتماً إلى متتالية جديدة من التشكيلات بسبب العجز الواضح في منظومة الحكم التي تشكلت في السابع من أبريل (نيسان) 2022 ولم تتمكن من التماسك لأداء المهام التي أنيطت بها، بل على العكس فقد قدمت نموذجاً بائساً جعل الناس يبحثون عن "قشة" ربما قدمت لهم الحماية والخدمات ومؤشرات تحسن محتمل في أوضاعهم المعيشية.
في الطرف الآخر تواصل جماعة "أنصار الله" الحوثية ممارسة السلطة بقمع ورفض الآخر المختلف تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" وبمبرر الحروب التي لا تنتهي، وتمكنت من ترسيخ سلطتها ومنع ظهور أي معارضة جادة لأسلوب ممارسة الحكم الذي ابتعد عن الدستور والقوانين وصارت العشوائية والمزاجية متحكمتين في تسيير الشأن العام، وتعددت مراكز النفوذ في العاصمة مع وجود مرجعية واحدة يقف على رأسها قائد الجماعة عبدالملك الحوثي الذي له وحده القدرة على حسم الخلافات التي تنشأ في غياب الرقابة والمحاسبة.
ومما لا شك فيه أن "الجماعة" أجهزت على كل النظام المؤسسي الذي كان قائماً وأربكته بوضع موالين لا يمتلكون الخبرة الإدارية اللازمة لإدارة الشأن العام، وفي الوقت ذاته فإنها برعت في تحصيل الأموال من دون مراعاة لأحوال الناس ولم تضع في حساباتها ما يعيشه الناس من جوع ومرض ولم تلتزم بتسديد مرتبات الموظفين.
إن الحقيقة التي يبالغ كثيرون في الحديث عنها هي المطالبة باستعادة الدولة، ولكن المواجهة الصريحة للواقع تؤكد أن هذه الفكرة بعيدة عن الواقع، فالتراكم المؤسسي لم يصل يوماً إلى الغاية المنشودة التي يمكن التعبير معها عن الأسف لغياب الدولة.
*نقلا عن موقع "إندبندنت عربية"