أثارت الكلمات التي أدلى بها المتحدث الرسمي باسم جماعة "أنصار الله" الحوثية محمد عبدالسلام لصحيفة "الشرق الأوسط" ردود فعل مختلفة بين مرحب ومتهكم، لأنه استخدم مفردة "الأخوة" عند حديثه عن الاجتماعات التي عقدت مع المسؤولين السعوديين، والواقع أن ردود الفعل المستهجنة غير مبررة، إذ من المفترض الترحيب بأي جهد تبذله الرياض للتقريب بين الأطراف اليمنية بمشاركة عمانية، ولعله من المفيد التذكير بما قاله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في حديثه إلى الإعلامي السعودي عبدالله المديفر في شهر أبريل (نيسان) 2021، "نتمنى أن يجلس الحوثي على طاولة المفاوضات للوصول إلى حلول تكفل حقوق الجميع. الحوثي في الأخير يمني ولديه نزعة عروبية نتمنى أن تحيى فيه بشكل أكبر ويراعي مصالحه ومصالح وطنه".
لم تكن كلمات ولي العهد مجرد أقوال عابرة، بل كانت مؤشراً مبكراً للقرار السعودي في طي صفحة الحرب في اليمن والانتقال إلى مسار جديد تدريجاً احتاجت التهيئة له إلى اتصالات ورحلات عدة بين مسقط والرياض وصنعاء، كانت علامتها الأبرز هي زيارة السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر إلى صنعاء في أبريل 2023 بعد لقاءات متعددة في مسقط، تلتها زيارة محمد عبدالسلام إلى الرياض التي اختتمت باستقبال وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان وفد "الجماعة" في سبتمبر (أيلول) 2023، ومن المستغرب اعتراض أي يمني على التواصل بين الرياض وصنعاء، لأن اليقين أن السعودية دافعت عن القيادات اليمنية التي فرت إليها وقدمت العون ولم تتوان في بذل الدماء والمال والجهد، ووفرت لها الحماية خارج اليمن وداخله، ولولا ذلك كله لكانت الأوضاع على الأرض مالت كلياً إلى اتجاه آخر.
إن اليمنيين الذين ذاقوا مرارات الحرب وعاشوا وما زالوا يعيشون اليوم الفقر والعوز والمرض والخوف يستحقون أن يسعى الجميع من دون كلل لوضع حد نهائي لاحتمالات عودة القتال والانصراف نحو مصالحة وطنية غير مشروطة إلا من الالتزام بالدستور القائم وأحكامه، وأي موقف من دون ذلك سيكتبه التاريخ لعنة على كل من عرقل ووقف أمام تحقيق رغبة المواطنين في السكينة والعودة التدريجية لحياة لن تكون طبيعية، ولكنها حتماً أقل قسوة مما مر بهم على مدى سنوات تسع.
يبدي بعض اليمنيين قلقهم من إنهاء الحرب، مبررين ذلك بأن ميزان القوى العسكري الحالي ليس في صالح السلطة المعترف بها دولياً، وأن أي اتفاق سيمنح جماعة "أنصار الله" الحوثية اليد الطولى في صراع السيطرة على البلاد وخصوصاً العاصمة صنعاء، والواقع أن هذا أمر طبيعي ومقلق يجب معالجته في المرحلة التالية لتنفيذ الشق الإنساني مع وضع الضوابط التي لا تسمح للجماعة باستغلالها للحصول على مزيد من الأسلحة والموارد المالية.
ومن المحير أن توافق هذه المخاوف المشروعة مع التحفظ في لندن وواشنطن على خطة السلام المطروحة، ويبدي البلدان ملاحظاتهما على تنفيذ الخطة التي أعلنها في البدء ولي العهد السعودي لإنهاء الحرب ثم تم تطويرها بجهد سعودي – عماني مشترك ووافقت الأطراف اليمنية مبدئياً عليها.
الموقف البريطاني بالذات ليس مستغرباً في الرغبة بإبقاء ملفات الصراع مفتوحة في المنطقة، فهي تاريخياً التي حددت جغرافيا المنطقة في فلسطين وغيرها بطريقة تبقي على التوتر سائداً فيها ومعه تظل الخلافات البينية مفتوحة، ومن المفيد أن تستعيد الذاكرة كيف تغير منطق الحكومة البريطانية من منتقد بشدة للحرب منذ عام 2015 إلى متشكك حد العرقلة في نجاح خطة السلام المطروحة.
والحقيقة أن الانزعاج الأميركي والبريطاني مرتبط بتحرر الرياض من القيود القديمة وانفتاحها على الدول الكبرى كالصين وروسيا، وفي هذا الإطار لا بد من العودة للاتفاق الذي رعته بكين لإعادة الحرارة تدريجاً بين الرياض وطهران بعد سنوات من قطيعة تسببت فيها السياسات الإيرانية، وكان الاتفاق مفاجأة أقلقت لندن وواشنطن لأنه يمنح المنطقة استقراراً لا ترغبان في حدوثه كي تستمر الاضطرابات والقلاقل والشكوك.
إن الموقف البريطاني والأميركي إزاء وقف الحرب في اليمن ليس نابعاً من حرص على اليمن أو السعودية وإنما جاء مرتبطاً بإبقاء الملفات مفتوحة، كي تجدا مساحة للابتزاز والضغط على دول المنطقة، كما أنه وثيق الصلة بما يدور في غزة والحرص على ضمان بقاء إسرائيل قوة وحيدة قادرة على ممارسة إرهاب الدولة من دون قلق ولا مخاوف، وتدرك الرياض هذا الأمر تماماً وتعمل على تجاوزه بحذق وهدوء.
الخروج من هذه الدورة يوجب على السلطة المعترف بها دولياً التوقف عن التشبث بورقة التوت التي تعلم تماماً أنها لن تغطي كل صخبها الإعلامي الممل ولا أخطائها ولا عجزها عن تحقيق أي من وعودها تجاه الناس، وأن تتوقف عن التوسل ليل نهار للمجتمع الدولي تنفيذها بينما هي مسترخية غير عابئة وغير قادرة علـى إدارة ما تحت أيديها من رقع جغرافية متناثرة، وتعيش من سنوات بفضل الدعم السعودي ولولاه لانهار القليل المتبقى من سلطتها.
في الوقت نفسه تستطيع جماعة الحوثي طمأنة اليمنيين بالانتقال إلى التنفيذ الفوري في معالجة القضايا التي لا تحتاج إلا إلى شعور بالمسؤولية الأخلاقية، وأقصد فتح المعبر الرئيس في تعز (مدخل الحوبان) أمام القادمين من خارج المدينة أو المسافرين إليها، كما عليها الإسراع بإطلاق كل المعتقلين والتوقف عن الممارسات القمعية ضد مخالفيها ومنتقديها، وإذا ما اقتنعت بذلك فـإنها ستفتح الطريق إلى مصالحة وطنية في أسرع الأوقات.
نقلا عن موقع "إندبندنت عربية"