أحمد نويهي

أحمد نويهي

تابعنى على

عن شارع صنعاء وكيلو3

Saturday 06 April 2024 الساعة 01:53 pm

في البدء كانت الأغنية... 

"حالتي حالة أطرز من جبين الشمس ثوبك وأرسم لك بوجه البدر هالة وأنت ما تدري بما بي من حنين. 

شل من بحري مجاديفه وسيب لي الأنين. 

برمج الدنيا على لونه وعطرها بِعِطر الياسمين". 

الأغنية كتبها الشاعر الراحل عبدالهادي الخضر وغنتها بلقيس فتحي ولحنها الموسيقار الكبير أحمد فتحي. 

غرب المستشفى الجمهوري وسط العاصمة منتصف شارع الزبيري الواصل بين العاصمة والميناء. 

إلى الشارع المؤدي إلى جولة "باب القاع" على الاتجاه المعاكس 

وقعت مخبازة البحر الأحمر كما لو كانت وما زالت موقد جمر يختمر في ذاكرة الزمان، والمكان. 

كانت المخبازة رصيفا يمتد يقابلها سوق أنيق للسمكمك، الذي تُصدره سواحل البحر الأحمر إلى صنعاء. 

رائحة الشواء تتدفق موسم تتكاثف الأعاصير وقت يشتد "المزيب" تذهب المراكب فلا تعود إلا خبراً تبثه وكالة سبأ عن غرق مركب وفقدان ثلاثة من البحارة ونجاة واحد. 

من عَصر هضبة تقع غرب صنعاء حيث يرتسم الشفق لتغرب الشمس، هناك تشرق تهامة عبر طريق يتلوى كمدارب السيل وقد سارت على هذا الطريق القافلة التي غيرت مجرى الهوى. 

عبر جبال مناخة سيرت الحركة الوطنية قوافل من المتطوعين للدفاع عن صنعاء أثناء حصار السبعين. 

فتحت الحديدة معسكرات تدريب وأطرت النقابات العمال ضمن المقاومة الشعبية للدفاع عن عاصمة سبتمبر. 

 عندما ضاق البر بالناس كان البحر يتدفق غزيرا عاصفا مثيرا، كانت المراكب والأشرعة تمنح الهاربين من محارق الجوع ومقاصل الجباية عهد الإمامة التي استبدت بالبلاد والعباد ملاذات آمنة. 

ثورة سبتمبر الخالدة "يوم بألف عام"

هاجر اليمني إلى عصب وجيبوتي والحبشة والسودان والصومال وكينيا ومدغشقر، قبل الطفرة النفطية شبه الجزيرة العربية والخليج العربي هرباً من بطش الأئمة. 

حملت رواية "يموتون غرباء" حينما التقطتها من رصيف شارع صنعاء في الحديدة التي لا يبعد عن مينائها سوى ثلاثة كيلومترات فقط لا غير.

شارع صنعاء الشارع الرئيس في مدينة المصانع والميناء وهو المؤدي إلى صنعاء عبر مناخة ما بين مدينتين الأولى شكلت العاصمة والثانية شكلت الميناء. 

من شارع الزبيري إلى شارع صنعاء تلاتة كيلومترات، وهذه المعادل الموضوعي لخارطة الحرب والسلام عبر طاولة المبعوث الأممي.! 

وهذه التلاتة غيرت معادلة الصراع بعد توقيع اتفاق "استكهولم" التي مكنت المليشيا من معاودة محاولة السيطرة على مضيق باب المندب وتعطيل حركة الملاحة الدولية في البحرين الأحمر والعربي وخليج عدن. 

والتاء هُنا بلكنة عدن ثاء، تكتب ولا تنطق إلا تاء. 

من عدن وفي عدن وإلى عدن، هاجرت الجهات ومنها وإليها سافرت المراكب وأقلعت حركة التحرر الوطني وفي عدن رسم السياسي، مسار الحركة الوطنية ومنها شعشع الهوى واللون الشاسع ذلك الأزرق المثير. 

كانت عدن وما زالت مهدا وموطنا وملاذا. 

عدن العاصمة المؤقتة والاقتصادية، مدينة سكنها البحر وعند سفوحها تبعثرت الأمنيات أغنيات. 

كانت اليمن قصيدة عمودية انشطرت لشقين، عاودت الأغنية تعزفها على بحرين.

يفيض عندما يكتب أستاذنا العزيز عبدالباري طاهر تجد اللغة تترقرق وتتدفق، تنساب الاحداث، تتالى لتصل إلى رصد سيرورة الزمن حتى تصبح صيرورة تاريخية. 

يؤرشف تاريخ الحركة الوطنية. 

 يقف على الناصية بفكر وعى واستوعب باكراً سِر الكينونة والتكوين وقد نشأ داخل المعترك بل كان أحد رواده وصانعيه. 

وقف ولم يستوقف، لم يمارس البكاء على الأطلال، وهذا ما يشدني إليه منذ تعرفته العام 1984 برفقة شقيقي الراحل عام 2017.

 وقد ثوى خلف الغيوم في صنعاء، على رفيف الغيم طوى سجله بصحائف السموات التي ابتدأ هناك رحلة الإياب بعد أنجز خوض المعترك كما يجب أن يكون.

 حين الذهاب هو اللحظة التي تقتضي أن نخوضها بلا تهيب. 

ما يكتبه الناس يرقى ويبقى، وحين ينثر الكاتب الأنيق يوجز بسطور ما ترسب وترسخ ليعشب هذا السرد الذي يوثق لحياة رجل أفنى عمره وأنفق شبابه حين صهر روحه المعجون بشبق الانتماء للهوى، والتراب. 

سبر أغوار التاريخ وتاريخ الشخصيات فيه من الصعوبة بمكان في بلد غُيب وقضى معظم الرفاق زنازين المعتقلات حين عاث اللانظام بحياة البلد ليحيلها لرفات ومقابر غابرة وقد تشكل نظام مقامر غامر بحياة الناس وضحى بحقوقهم في العيش الكريم.

 سُلبت الحريات لكنهم لم يهنوا ولم يرضخوا داخل الأقبية وغرف العزل عاشوا وقد عادوا مراراً كشوكة في حلق النظام الذي يرى من شقوق جدار لا يقوى على الصمود أمام زئير المعتقلات وقت تكتظ بكادر الحركة الوطنية التي تحملت باكرين مهام استرداد الأرض ورسم الخارطة على كامل الترب. 

وقعت البلاد على بحرين وعند المضيق باب يتسع ليعبر العالم بينما ضاقت البلاد بالناس أجمعين. 

تاهت أسراب الجن والحوريات وتناثر القصر فقد رقصت الحرب على رؤوس الأفاعي وذهب الانتفاعي والانتهازي ليصبح أمير حرب وأمراء حروب تكاثروا وقت انضوى الناس كما لو أصبحوا مخيمات وخياما نزحت في مهب العواصف بعد أن هدأت العاصفة هبت عواصف كثار.! 

الاستاذ عبدالباري وجد صادق، وحرف عزز معاني الحياة وقد عاش يعزف سيمفونية المدينة على قيثارة وقانون المدنية. 

وهو العارف الذي اختط طريقاً جلياً مساره هذي البلاد العصية. 

وهذه كانت توطئة لكتابة شيء ما عن أستاذ الجيل المعاصر لكثير من القضايا التي خاضها في المعترك بحثاً عن دولة مواطنة. 

في تعاريج ملامحه ثمة ملاحم عاش يؤبجدها ليقرأ بكل الشغف ما ينثره وينشره الاستاذ بصدر مجلة الثقافة والثقافة الجديدة ومجلة دراسات يمنية التي تولى إصدارها مركز الدراسات والبحوث اليمني،مجلة الحكمة وجريدة الأمل، والثوري وصوت العمال، وصحيفة الأمل التي صدرت باسم الجبهة الوطنية الديمقراطية أثناء العمل الحزبي السِري الذي تولى مهمة إنجاز خارطة جغرافية وطنية للجمهورية استكمالاً لأهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر. 

على الطاولة صدفة بلا ميعاد وبمعيته الرفيق الراحل مع الغيوم الأستاذ عبدالرحمن الاهدل الذي عمل موظفاً لدى مصلحة المساحة وقد عرفته هناك عن قرب. وما زال ببال المسافر أن يكتب عن لحظة شاردة من الشروق إلى الشفق. 

الرفيق عبدالرحمن الأهدل شاعر رقيق وسياسي ناضل في صفوف الحركة الوطنية فهو عضو لجنة مركزية للحزب الاشتراكي اليمني، أديب وكاتب، عضو في اتحاد الأدباء والكتاب. 

إلى جوار عبدالباري والأهدل رأيت نبي الفقراء يوسف الشحاري المناضل العتيد، 

على ذات الطاولة رأيت الفنان أحمد فتحي، والشاعر أبو القصب الشلال، والفنان جابر علي أحمد. رأيت الجباه السُمر من طلاب وعمال وجنود ومثقفين، وكادحين وتأملت ملياً في اللهجات واللكنات في ملامحها تهامة رأيت الوجد الصادق في انثيالات المطر المنهمر في تدفقات اليسار الذي تحمل كثير مخاطر لتنتصر الجمهورية وثورتها الخالدة. 

ثمة وجوه ما زالت تعشب في الذاكرة كما لو كان المكان ذلك المجتمع الفسيح في زمن كانت المدينة ما زالت في طور التشكل والتحديث والمواكبة، كانت لحظة شجن وزخم شعبي يخضر بكثافة الحضور، حضرت تهامة بتنوعها الثقافي والغذائي والاجتماعي فقد لَحنتُ لهجة ولكنة تهامة من خلال الاندماج مع أبنائها الذين انصهروا في صنعاء حين صاروا جزءاً أصيلا من الكينونة الوطنية الشاسعة بتنوعها البيلوجي والأيديولوجي. 

 كانوا نخبة يتداولون الحديث على طاولة مخبازة البحر الأحمر، وأنت تطالع في الوجوه، تسمع قهقهات الندامى رفاق المصير ستدرك ماهية الوطن. 

ستعرف معاني ومباني وأغاني مدن الموانئ من خلال اللقاء أثناء تلهج شوقاً لذلك الزمن والرصيف. 

من "باب القاع" نشأت هذه العلائق الحميمية مع البحر كما لو كنا دونما نشعر نعبر "باب المندب". 

وهو يمنح ذلك الدفء والحرارات ترتفع ذروة الكوانين، وما زال بجوف الروح يشتعل ذلك القمح المسقى بالعسل، على طاولة ينثرها البحر لحظة تشعر أن الموج الهادر على الشطوط يمتد يشعل الموقد، يشحن الروح كما لو كان المد جاوز المدى ليصبح مدارا. 

يختزل الموعد والمكان المسافات يطويها، يؤنسن المساحة لتغدو مشتركا إنسانيا ساطعا غزيرا. 

لم تكن الحديدة مدينة مغلقة أبداً فقد عاشت كجزء أصيل من المدينة التي أصبحت في وقت مبكر كأهم محطة على طريق القوافل والمراكب، مقهى وميناء سجل حضوراً كبيراً على خارطة البر والبحر.

تلك كانت ثرثرة لم تكتمل تصاويرها، وكما يقال للصورة حديث وللحكاية بقية. والحديث عن تهامة وتنوعها وموروثها ليس يُمل لكما يبث ويفتح باباً للغد يمنح للروح شراعاً يجدف على بحر الهوى والطرب.