أعتقد أن مأزق الحوثيين لم يعد حدثاً سياسياً عابراً يمكن معالجته، ولا أزمةً يمكن حلّها ببعض الإصلاحات أو إعادة التموضع؛ بل أصبح معضلةً بنيوية تتآكل من داخلها وتضغط عليها من خارجها.
داخلياً، تعيش الجماعة حالة من الانقسام الصامت بين منطق الثورة ومنطق الدولة؛ فهي لم تعد حركة مقاومة تتغذى على الحلم بإسقاط النظام القديم، ولا أصبحت سلطة متماسكة قادرة على تقديم نموذج حكم قابل للحياة.
هذا التناقض الداخلي باعتقادي يخلق فجوة متزايدة بين القاعدة القبلية التي ضحّت من أجل شعار "الصرخة" والمشروع العقائدي، وبين النخبة الهاشمية القيادية التي تحوّلت إلى طبقة سلطوية تراكم الثروة والامتيازات على حساب معاناة المجتمع.
اقتصاد الحرب الذي تبنّته جماعة الحوثي، خلق لها مقومات بقاء متوسط الأمد لكنه في الوقت ذاته رسّخ شبكة فساد محلية، وعزّز منطق الجباية والإقصاء، والتهميش وعمّق السخط الشعبي في مناطق سيطرتها. وكلما طال أمد الصراع، ازدادت هذه التناقضات حدة، لتتحول إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر من داخل البنية الحوثية نفسها قبل أن تسقطها أي قوة خارجية.
أما خارجياً، فإن الحوثيين يواجهون مأزق الشرعية الدولية والعزلة الإقليمية. فبينما يحاولون الظهور كفاعل سيادي يفاوض الأمم المتحدة ويمدّ خيوط العلاقة مع بعض القوى الدولية، فإنهم في الوقت نفسه مرتبطون عضوياً بمحور إقليمي (إيران وحلفائها) يجعلهم في نظر كثيرين مجرد وكيل لحروب الآخرين. هذا الارتباط يكسبهم دعماً عسكرياً وسياسياً لكنه يسلبهم القدرة على تقديم أنفسهم كحركة وطنية خالصة، ويجعل أي تسوية سياسية مرهونة بتفاهمات إقليمية لا يملكون التحكم فيها.
مأزق الحوثيين إذن مزدوج: إذا انغلقوا على أنفسهم سقطوا تحت ثقل التناقضات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، وإذا انفتحوا على العالم خسروا صورتهم العقائدية وأُجبروا على تنازلات قد تهدد تماسكهم العقائدي. إنهم عالقون بين واقع يفرض عليهم التحوّل إلى سلطة مسؤولة غير مؤهلين لها، وبين خطاب ثوري يناقض قبولهم بأي شراكة حقيقية أو تسوية متوازنة.
وهنا تكمن المعضلة الأعمق: جماعة سلالية قامت على فكرة الخلاص الجماعي تحوّلت إلى سلطة تديم الأزمة كي تستمر في البقاء. صحيح أنها مأزق للآخرين بلا شك، لكنها قبل ذلك مأزق لنفسها.
كل خطوة تتخذها نحو التكيف مع العالم الحديث تسحب من رصيدها الرمزي وتُضعف هويتها الثورية، وكل محاولة للتشبث بالهوية المغلقة تعزلها أكثر وتجعلها هدفاً مشروعاً للعقوبات والضربات والاستهداف. وهكذا، تبدو الجماعة وكأنها تسير في مسار حلزوني مغلق، كلما حاولت الخروج من أزمتها عادت إليها من بوابة أخرى، وكأن التاريخ يختبر قدرتها على التحوّل من حركة مسلحة إلى كيان سياسي مسؤول، أو الاندثار تحت وطأة تناقضاتها الذاتية.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك