د. لمياء الكندي

د. لمياء الكندي

تابعنى على

المتحري جذور المغالطات ونسف الحقائق

منذ 6 ساعات و 28 دقيقة

في أقل من دقيقة، يستهل الفيلم الوثائقي "المتحري – اليمن وإسرائيل جذور الصراع" حلقته التوثيقية بعرض مشاهد لاستهداف مليشيات الحوثي للسفن الذاهبة إلى الموانئ الإسرائيلية عبر البحر الأحمر، ليتم بذلك العرض السريع اختصار المهمة الوظيفية لقناة الجزيرة في دعمها وإسنادها للسردية الحوثية، وفرض حكمٍ مسبقٍ يشجع الأداء الحوثي كقوةٍ إقليميةٍ متحكمة، ويستثمر في عملياته لصالح أجندةٍ خاصةٍ تعبّر عنها الجزيرة كواجهةٍ إعلاميةٍ تسوّق للسياسة القطرية التي كانت ولا زالت تساند ما يسمى بمحور المقاومة رغم تهاويه.

المتحري، من عنوان حلقته "اليمن وإسرائيل جذور الصراع", يتبنى سرديةً تاريخيةً مزيفةً يضع اليمن في مواجهةٍ دائمةٍ ضمن الصراع، وهذه مغالطةٌ تاريخيةٌ نقضها المتحري نفسه عندما استهل عرضه بالحديث عن التخادم الإسرائيلي–البريطاني–الإمامي ضد الجمهورية عبر دعم الملكيين، مدعيًا أن حلقته تلك غاصت في تفاصيل صراعٍ تكلمت عنه وثائق عمرها ثمانون عامًا، وهو عمرٌ مبالغٌ فيه ويتجاوز حتى مواقف اليمن أثناء حكم الكاهن يحيى بن حميد الدين وابنه أحمد.

ولم يشر المتحري إلى دور الكاهن يحيى حميد الدين في تهجير اليهود اليمنيين إلى فلسطين المحتلة، وإشرافه المباشر على عملية نقل ما يقارب من خمسين ألف يهودي يمني إلى الأراضي المحتلة قبل وبعد نكبة 1948، وإعلان إسرائيل كدولة.

أسقط المتحري التخادم الإمامي مع إسرائيل عمدًا، ولم يذكر أنه كان سببًا لتعاونٍ مباشرٍ إمامي–إسرائيلي أثناء حرب الجمهوريين ضد الملكية.

لم يركز المتحري على الأحداث التاريخية التي اختارها بعنايةٍ كي تخدم أجندةً ورواياتٍ خاصة تستثني حقائق وأدوارًا وشخصياتٍ لعبت دورًا مهمًا في تثبيت أمن منطقة البحر الأحمر وسيادة اليمن عليه كممرٍّ مائيٍّ يمنيٍّ خالص، ليروي لنا حكايةً مخالفةً للتاريخ والواقع، وكأن منطقة البحر الأحمر طيلة ستين عامًا كانت مسرحًا للسيطرة الإسرائيلية وأنشطتها، وأنها لم تتحرر من هذه السيطرة إلا عقب الهجمات الحوثية على سفن العبور الإسرائيلية، بما يفرض سيطرة المليشيات وتحريرها لهذا الممر المهم من السيطرة الإسرائيلية.

اعتمد المتحري، بالإضافة إلى محاولته الانتقائية في اختيار الأشخاص والأحداث، على جملةٍ من المؤثرات السمعية والبصرية التي توهم المشاهد أنه أمام وثائقي استخباراتي فريدٍ من نوعه، وهو في الحقيقة لم يأتِ بجديد، فكل ما ذكره من أحداث كان معروفًا ومدوّنًا في الصحف وبعض الكتب التي تناولت تاريخ اليمن الجمهوري في تلك الفترة، وأي باحثٍ عاديٍّ يمكنه الحصول على تفاصيل أكثر عن طبيعة الأحداث في البحر الأحمر ومساعي التواجد الإسرائيلي بين ضفتيه شرقًا وغربًا من أي مكتبةٍ عامة.

أغفل المتحري تمامًا كيف استقبلت اليمن في عهد الرئيس الراحل علي عبد الله صالح فصائل المقاومة الفلسطينية، وكيف تم دعم تلك الفصائل ومنحها معسكراتٍ للتدريب، وكيف شكّلت اليمن أثناء حرب 1973 وبعدها – من خلال موقعها الجغرافي – بؤرة مقاومةٍ وإعدادٍ عسكريٍّ ضد إسرائيل. وتجاهل معسكرات التدريب والمقاومة التي أُنشئت خصيصًا لتلك المواجهة، وما زالت مواقعها وآثارها من معاقل وأنفاق وكهوف وتجاويف نُحتت من أجل هذه المعركة متواجدة بالفعل على جنبات رأس العارة وغيرها من المواقع على امتداد الساحل الغربي، والتي أسهم في إنشائها المحور العربي المقاوم برعاية مصر وسوريا والأردن.

أبرز المتحري سرديةَ الاختراق الإسرائيلي لمنطقة البحر الأحمر كمسرحٍ للنفوذ والتخابر الدائم والمستمر، دون أن يشير إلى أن اليمن، أثناء فترة الرئيس إبراهيم الحمدي، قد استعاد السيادة الكاملة على الجزر اليمنية في البحر الأحمر (كمران، حنيش، وزقر)، ورفض أي وجودٍ أجنبي أو مراقبةٍ دوليةٍ قد تتيح لإسرائيل وحلفائها النفوذ إلى المنطقة، وتعاون اليمن مع مصر والسودان لتعزيز أمن البحر الأحمر كونه بحيرةً عربيةً مغلقةً أمام أي نفوذٍ صهيوني.

وتجاهل المتحري السياسة اليمنية أثناء حكم علي عبد الله صالح التي فرضت واقع السيادة اليمنية على الجزر اليمنية في البحر الأحمر، ومنعت أي محاولاتٍ إسرائيليةٍ لاستخدام هذه الجزر في الرقابة على الممرات المائية في البحر الأحمر، مما اضطر إسرائيل إلى التوجه إلى الضفة الغربية للبحر الأحمر لإقامة قواعد عسكرية إسرائيلية فيها، كما حدث مع إريتريا التي شجعتها الأنشطة الإسرائيلية على القيام باحتلال جزيرة حنيش الكبرى عام 1995. وكيف أثبتت سياسة الدولة، ممثلة بالرئيس علي عبد الله صالح، نجاحها عبر الدبلوماسية والتحكيم الدولي في استعادة الجزيرة، حيث صدر حكم تبعية الجزيرة لليمن، وبذلك فوّت علي عبد الله صالح على إسرائيل فرصةً أخرى للنفوذ إلى المنطقة.

أما عن جزيرة ميون التي أشار إليها المتحري، وإلى مساعي إسرائيل للسيطرة عليها – وهي التي تربط البحر الأحمر بالبحر العربي – فتذكر بعض التقارير سعي إسرائيل إلى فرض رقابةٍ بحريةٍ تسهّل لها الحصول على معلوماتٍ عن أي تحركٍ عربيٍّ ضدها. ولم تسعَ أو تتمكن إسرائيل من احتلالٍ مباشرٍ نتيجة لمواقف اليمن الرافضة لأي تواجدٍ لها، فحاولت إسرائيل عبر أطرافٍ أجنبيةٍ – من خلال إريتريا وإثيوبيا في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي – الحصول على تسهيلاتٍ لوجودٍ بحريٍّ واستخباراتيٍّ يعوّض العجز الإسرائيلي عن الوصول إلى الجزيرة اليمنية الهامة.

وتغافل المتحري ذكر جهود الرئيس الحمدي في تعزيز التواجد العسكري اليمني في جزيرتي ميون وكمران رغم ضعف الإمكانيات، وبدء تأسيس نواةٍ لقواتٍ بحريةٍ يمنيةٍ لمراقبة الممر، وأكّد في خطاباته أن جزيرة ميون يمنية، ولن نسمح بتحويل البحر الأحمر إلى بحيرةٍ إسرائيلية.

والشيء نفسه يُذكر في فترة حكم الرئيس علي عبد الله صالح، الذي أكّد السيطرة اليمنية الكاملة على جزيرة ميون عبر إنشاء قوات حرس السواحل والقوات البحرية، واستمر اليمن في عهده بمراقبة التدخلات الإسرائيلية في البحر الأحمر، خاصة بعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، التي سمحت لإسرائيل بالتحرك بحريةٍ نسبيةٍ في البحر الأحمر، وكان اليمن يحذّر بانتظام من تحركاتٍ إسرائيليةٍ بالقرب من جزيرة ميون وباب المندب، ورفع بهذا الخصوص الشكاوى إلى الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية.

لقد نجحت اليمن في عهد الحمدي وصالح في منع أي تواجدٍ إسرائيليٍّ في المنطقة أو إنشاء أي قاعدةٍ عسكريةٍ فيها، واستمرت استقلالية الجزر اليمنية طيلة حكمهم، وهو ما حاول المتحري عدم ذكره، متناسيًا أن تفكيك اليمن وتقسيمها وتوغّل الأنشطة العسكرية والاستخباراتية فيها لم تشهده اليمن إلا عقب الانقلاب الحوثي على الدولة اليمنية، وما تسبب فيه من جعل اليمن بوابةً مفتوحةً للصراع والتنافس والاختراق الدولي، بما فيها الإسرائيلي والإيراني. فالمتحري لم يتحرَّ التاريخ، ولم يأخذ بشواهد التاريخ ولا بأحداث السياسة، بل سعى فقط للترويج لأن البحر الأحمر كان مقرًّا للتخابر والنشاط الإسرائيلي حتى جاء الحوثيون وأنهوا ذلك النشاط أو الوجود، مقدِّمًا ذلك كمحسنةٍ من محاسن هذه الجماعة الإرهابية.

ودمتم بخير.

*صفحتها على الفيسبوك