من "المخا" في كبد البحر الأحمر إلى "الشحر" سيدة بحر عرب، هناك حركة تؤكد أن السواحل مخلوقة لأجل حياة هادرة تستعصي على أي انغلاق.
هذه أول مرة منذ أربع سنوات أزور السواحل اليمنية الممتدة بين المدينتين.. وفي ظروف الكلمة الأعلى فيها هي لـ"الموت" قرين الحرب.
وحين يتحرك واحد مثلي، كان يرى كل هذا شراً مطلقاً، إما موتاً مطلقاً، أو مجرد مناطق تنفصل عن عاصمة الصمود والتحدي، أو احتلالاً وعدواناً.. وكان يرى كل ما هو هناك في أزقة الكون وقمم الجبال هو الوطنية والحياة والصمود الوطني.. فإنه يبذل جهداً خرافياً ليستوعب كل هذا التناقض.
دعوني من ذاتي، لنبقَ هنا، في هذه الجغرافيا التي قطعتها بين المخا والشحر.. خلال شهرين، وسط كل هذه التناقضات الواقعية، بعد ثلاث سنوات من البعد عن كل هذا..
الغريب أني الآن، وأنا أتحرك في هذه المناطق، لا أجد نفسي فقط في نقاش مع حيث كنت، بل وحتى مع جهد كبير كنا نتحارب معه لكننا متفقون أن هذه الفضاءات لم تعد إلا مناطق خالية من كل ملامح الحياة.
لم تعد عدن، في خطابنا طرفي الحرب حول صنعاء، إلا مدينة للأشباح ليس فيها أحد من صنعاء ومن تعز ومن الحديدة.. فضلاً عن مأرب وحجة وغيرها..
أما أبين، فهي مجرد وكر للقاعدة، وشبوة شراكة لمجاميع الإرهاب، وحضرموت لاندري ما كانت عندنا.. حين كانت محتلة من القاعدة، وكنا نرى ذلك عقاباً إلهياً لها، ولا ندري ماذا جنت حتى يعاقبها الله، فهي ـ فقط ـ وقعت بعيداً جداً عن جهالات الحوثي الذي نحن ضده، فلأى عقوبة إذاً، إلا إذا قلنا إنها لم تقبل بأن تقيم فيها ثورة الربيع دولتها.. لكن ولا حتى صنعاء بقي فيها للربيع دولة، فلماذا إذاً إلا حضرموت..
وبعدها، تحررت من القاعدة، وأيضاً، لم يستبشر أحد منا بذلك.. لا المؤتمر ولا الإصلاح.. لا علي محسن ولا علي عبدالله صالح.. لا هادي ولا توكل كرمان.
وحين نصل مأرب، تتحول التحالفات فننقسم لنعتبرها نحن الذين في صنعاء مجرد منطقة احتلال وتراها الشرعية مجرد مدينة تبيع النفط والغاز ولا تدفع لمالية هادي ما يريد وتصرفها على مجتمعها.
وللعلم فإن الجنوبيين لم يبادروا لأي حشد وتهم ضد مأرب، على عكس مستوطني مأرب من الموالين للإصلاح والشرعية تجاه عدن وبقية الجنوب.
وهكذا اتفقنا، كلنا: شرعية وانقلابيين، حلفاء وأعداء، على تصوير هذه المناطق مجرد مقابر ميتة، ليس فيها أي حياه ولا "هوية يمنية".
يا إلهي.. لماذا نتحارب، إذاً، ونحن بهذا الاتفاق في التوصيف..
وساعدت القلاقل والخطابات الحادة وسقوط الإعلام وانهيار السياسية على الادعاء أن هذه المناطق صارت خالية من الأمن ومن كل مواطني المحافظات الأخرى.
حين وصلنا عدن.. التقينا بأناس لم يخطر على البال أنهم يعيشون في عدن.
بعضهم يشارك في حملات عنيفة هي حملات طبيعية ضد الأطراف السياسية الأخرى.. لكن غير الطبيعي أنها تخلط بين هذا الصراع السياسي وبين المنطقة والناس.. بل إن بعض هذا الخطاب يخلط بين الناس العاديين وبين السياسة.
على سبيل المثال، سقطت دولة هذا الطرف في صنعاء.. هرب منها، لكنه يريد أن يصل عدن ليمارس هيمنة تلك الدولة التي لم تعد معه ولا حتى وجد فيها مكاناً له هو.
دعكم من التسميات أن هذه دولة وحدة أو دولة اتحادية أو دولة جنوبية أو شمالية..
الصراع هنا كله سلطوي.. ولا يستطع أحد أن يعيش في مأرب، وهو يتبنى خطاباً عدوانياً للتجمع اليمني للإصلاح ولمسمى "الجيش الوطني" الذي نشأ في سياق الصراع لاحتواء دولة الإصلاح والشرعية في مواجهة ما كان يسمى "القوات المسلحة والأمن" التي ثار عليها الربيع العربي كما في كل الدول.
غير أن خصوم الإصلاح، لم يخلطوا.. وبقي خطابهم ضد الإصلاح ولكن ليس ضد مأرب..
سأضع لنفسي خط رجعة، وأقول: ربما أنه ليس هذا ما كان بعد تطهير هذه المناطق من الحوثي وحلفائه منا نحن، آخر من سقاهم الحوثي شره كاملاً رافضاً منطقنا الذي يدعي أن اليمن بخير في صنعاء.. فالحوثي يقول إن الصرخة هي التي بخير وصامده وتعتاش على دماء اليمنيين وأرواحهم..
وربما أن ما أشاهده أنا اليوم، هو بعد الجهد الكبير الذي بذله الجنوبيون في مناطقهم، من إعادة ترتيبات، سنتحدث عنها في أوقات مختلفة تالياً.. وبدعم من التحالف العربي وخاصة الإمارات العربية المتحدة.
فأنا مررت على نقاط كثيرة، بداية من "مريس"، وتوقفت في الضالع واعتقلت في الحوطة، ثم كدت أتحول متهماً بالإرهاب في "صبر" قبل أن يعتذر لي قائد الحزام الأمني هناك ويؤكد أنهم لايتدخلون في الصراعات السياسية على الإطلاق.. وكل عملهم متركز حول إعادة بناء القدرات الأمنية للمحافظة.
ثم بدأت رحلتي تجاه المخا.. وبعدها بالاتجاه الآخر شرقاً.. وكانت هي الرحلة الأكثر صدمة لي أنا، فأنا سرت فيها بدون أي تنسيق، وبدون مرافقة أحد.. وتنقلت في المناطق الأكثر جدلاً من أبين إلى شبوة ثم حضرموت..
وقبل الوصول إلى المكلا، هناك القوة التي تنتمي للمنطقة الأكثر إرهاقاً من صراعات دولة الجمهورية اليمنية من ١٩٩٤، وهي الضالع، والتي تنتظم الآن في لواء بارشيد، ولم أجد منهم أي تعنتٍ.. فقط، يُلقون نظرة على هويتك ويسجلونها إن كنتَ غريباً، ثم تمضي في طريقك، ولكن روى لي الكثير أنهم أُوقفوا هناك، ولكن بعد التوقيف إما أنك تدخل عبرهم للجهات الأمنية لتقرر مصيرك، أو يأتي من يضمنك لديهم.. وفي ظروف كل هذا الحروب فإن هذا الإجراء يجب فهمه أولاً، ثم الحديث بعد ذلك عن معالجات لأخطائه، سواءً قلنا إن هذا ضد الحوثي أو حتى ضد أطراف دولة يمن ما بعد ٩٤م.
ليحفظ كل مناطقه، وبعد انتهاء الحروب هذه كلها سيجلس الجميع على طاولات التفاوض، ولن يحدث إلا ما يحقق الرضا لمن ساهم في حماية أرضه من الخرائب.
وكما في عدن، حين رأيت الناس من كل المحافظات فإن المكلا زادت السؤال عندي: لماذا، إذاً، لاتزال الحملات ضد هذه المناطق حتى الساعة؟ هذا من إب، وذاك من تعز.. لقيت محامين من منطقتي أنا في جبل صبر بمحافظة تعز.. وتناقشت الكثير مع أناس من ذمار..
الأمر، بالتأكيد، مر بمراحل مختلفة من الصراعات.. لكن لماذا لايزال في الإعلام كأنه كما حدث في الوقت الذي كان كل قادم من الشمال مشروع "حوثي"..
في الشحر، ٤٣ معرض سيارات، هذه المدينة الصغيرة التي صحت على حاجة اليمنيين للخدمة المفتوحة مما وراء البحار، فانتعشت وهي لم تكن إلا ميناء اصطياد صغير..
المكلا، مزحومة بالحاويات.. لم يكن هذا الميناء يعرف الاستيراد بالحاويات إلا بالنادر.. كان مجرد ميناء يلتقط الفُتات.
حين تصل حضرموت، تقول لك هذه المحافظة: هدئ روعك.. فللجبال غرور وعجرفة حتى بالخوف، يصورون لك أن بلدك انهار وانتهى لمجرد انتهاء مصالح المراكز هناك..
لمجرد أن الجيش الذي كان عبارة عن سلاح بيد المركز، لايقدم شيئاً للمجتمعات المحلية.. حتى حين احتاجته هذه المجتمعات لحمايتها من الشر المسلح بالقاعدة أو الحوثي، اختفى.
لمجرد أنه لم يعد موجوداً تقول لك مراكز القوى إن بلادك انهارت.
ربما هي، أيضاً، تتحدث عن العَلَم.. ومع أنه حتى في صنعاء لم يعد العَلَم إلا ألواناً حمراء وخضراء تشي بالصرخة الخضراء التي تشرب دم اليمنيين الأحمر، فإن مراكز هذه القوى يعاتبون المناطق التي هي من تأويهم اليوم باعلامها أنها لم ترفع أعلام دولة صنعاء..
لست في معرض الحديث عن شكل الدولة، واحدة أو دولاً.. مركزية أو اتحادية.. فالواقع اليوم أن صنعاء الانفصالية تأكل كبد الدولة والوحدة، وتهدد المنطقة بأجمعها..
الأوطان ليست أدوات للسلطة.. الأوطان ليست مجرد جيش وعَلَمٍ.. ولا حتى نظام سياسي.. الاوطان هي أرض الإنسان، من لايراها كما هي..
أي شعار يمنع صاحب الأرض من أن يكون سيداً عليها، ويعطي هذه السيادة لابن منطقة أخرى مهما كان الشعار، هو إهانة للإنسان وللأرض معاً.
شبوة، محمية بأبنائها.. حضرموت التي لم يكن فيها جندي واحد من أبنائها، اليوم محمي ساحلها كله بأبنائها.. من بشرة الأرض وصوتها وعاداتها وتقاليدها، والدولة التي ستحترم هذا ستكسب حضرموت أينما كان مركز هذه الدولة بعد ذلك.
وكل هذا يرعاه التحالف العربي، الذي هدد الحوثي وجود دولتي السعودية والإمارات، وواصل الحوثي خطابه الأرعن عن ضرب الرياض وما بعد الرياض. وأبوظبي وما بعد أبو ظبي، التزاماً بخطاب حسن نصر الله ضد حيفا وما بعد حيفا.. وكأن اليمن راجمة صواريخ يطلقها الحوثي حيث يشاء..
وتأتي أطراف يحميها التحالف وبخاصة نشطاء الإصلاح والمستفيدين من مال الشرعية الرسمي، وبعضاً من الذين هم في وضعنا قبل ديسمبر، يرون هذا الدعم الإماراتي احتلالاً وفصلاً للدولة الواحدة..
وحين يتحدثون عن الدولة الواحدة تظن اليمن، فعلاً، اليوم واحداً.. من في مأرب لايستطيع الوصول إلى صنعاء، ثم يقولون اليمن الواحد، لي من حين زرت قريتي في تعز أربع سنوات.. ثم يقولون إن الإمارات تريد فصل الوحدة، وفجأة يقولون هم إنهم مع انفصال حضرموت عن الشمال والجنوب..
يا إلهي.. كم هو مُجِهد هذا الدوران الذي لايتوقف، مركزه فقط الرغبة في دوام ملاطمة العميان وإبقاء البلاد قيد الصراعات التي لاتنتهي..
أطلت عليكم كثيراً..
استميحكم.. وإلى لقاء.