"اليمن مقبرة الغزاة"، وهذا قول مأثور وشائع تاريخيا، ويتم استحضاره عادة في لحظات من التباهي والفخر الوطني.
فلنقل إن هذا صحيح. وهو صحيح حقّاً، ويستند لشواهد من التاريخ.
لكن ما لا يعرفه الذين دأبوا على تكرار هذه المقولة، لاسيما في صنعاء خلال الأعوام الأخيرة، أن اليمن هي، بالقدر نفسه، مقبرة للطغاة ولكل شكل من أشكال السلطة "الكليانية" المطلقة، سواء كانت باسم الإله أو باسم الشيطان، باسم الثورة أو باسم النظام، طغيان الغزاة أو الطغيان باسم مقاومة الغزاة.
فحيث يفشل الغزو يفشل الطغيان أيضاً. موجبات وأسس الفشل والتعثر هي نفسها. الخصائص التي لا تتيح للغازي "الخارجي" أن يسيطر ويستقر، لا تتيح أيضاً للمستبد والطاغية "الداخلي" أن يسود.
فكل ما يعيق الغزو، أو على الأقل كل ما يجعله باهظ الثمن، هو نفسه ما يعيق أي مشروع أو توجه شمولي صارم.
اليمن تُخرج لسانها لتهزأ ممن يقول إنه سيبتلعها عسكرياً ثم يضع يده عليها معتمداً على فائض القوة (فقط)، أي من دون إرفاقها بمصدر آخر أو أكثر، من مصادر الشرعية، وهي تُخرج لسانها أكثر لتهزأ من المعتوهين الكهنوتيين حديثي عهد بالوطنية.
نحن نتحدث هنا عن بلد صعب المراس، معقد التكوين، وله تاريخ مديد من التوحد والانقسام، وسجله مليء بمقاومة حتى جهود وسياسات بناء الدولة وتثبيت النظام، وخاصة إذا لم تتخذ هذه الجهود أسلوباً حكيماً يراعي السمات المتعددة للمجتمع اليمني.
يمكن للغزاة والطغاة على حد سواء أن يظفروا بقطعة من اليمن، صغيرة أو كبيرة، أو أحياناً كل اليمن لكن لبعض الوقت، كما حدث في عصور سابقة، لكن ما ليس ممكناً هو أخذ اليمن كلها والاحتفاظ بها بالاستناد (فقط) إلى منطق الحديد والنار والغلبة والإكراه.
واليمن التي تقبر الغزاة وتكبح الطغاة، هي اليمن القديمة والحديثة، الشمال والجنوب والشرق والغرب، وليست فقط تلك اليمن التي خضعت على فترات تاريخية معينة لحكم "العترة" و"الحق الإلهي".
اليمن بطبيعتها تحتوي على سمات جغرافية ومناخية متباينة، وهذا التباين أسهم في تشكيل خارطة معقدة من الطباع والعادات والمصالح والثقافات والميول الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية، وكل ذلك يفصح عن نفسه في مظاهر عديدة من ردود الفعل التاريخية النموذجية التي تتميز بها منطقة عن أخرى، كما يفصح عن نفسه عبر اختلاف طرائق الممارسة والتفكير السياسيين وأساليب التفاعل وعدم التفاعل مع الشأن العام في كل منطقة من مناطقه المختلفة.
فما يَصْدُق على جزء من البلاد لا يَصْدُق على بقية أجزائه بالضرورة وعلى نحو دائم.
وكل جزء من أجزاء اليمن احتضن في مرحلة معينة من التاريخ غزاة أجانب، وكل جزء من أجزائه قاوم وتمرد في مرحلة ما من التاريخ على غزاة أجانب.
اليمن مجبول على التنوع. إنه في الوقت ذاته واحد ومتعدد. متداخل ومنفصل.
هكذا تظافرت شبكة من العوامل والمؤثرات على صياغته بطريقة تلغي كل إمكانية لفرض أي نمط من أنماط الحكم الشمولي. لكن هذا التنوع لا يدل بالضرورة على استحالة تأسيس/ والحفاظ على متحد سياسي دائم. في بلد كاليمن، الأمر يقتضي، بالتحديد، درجة من العبقرية السياسية، والدراية، وحس الابتكار، واستخلاص القوانين والنظريات والسياسات من تراكم الحاضر ومن التعامل المباشر مع الواقع والإحاطة بمكوناته وحقائقه وملابساته.