لم تكن لحظة مقتل صالح مجرد انتصار عسكري حوثي في حرب تصفية ملعب صنعاء، إنما تجلت كحدث فارق في مسار المسألة اليمنية.. حدث أعاد تعريف خارطة الحرب سياسيا وعسكريا، وأسهم في تشكيل وترتيب تحالفات وتوازنات جديدة، بعد أن انحصر الصراع لثلاثة 3 أعوام بين معسكري (صنعاء، وعدن).
بالنسبة للجماعة الحوثية فإن تصفية "قاتل الحسين" هو مجرد انتصار لحظي قد يؤسس لهزيمة دائمة، حيث اعتقدت سلطات الحوثي في لحظة تأزم سياسي، أن قتل حليفها الذي منحها غطاء ومشروعية سياسية، سيتيح لها الانفراد الأكثر بالنفوذ والسلطة، لكنها اليوم أضحت وحيدة في ملعب السياسة والحرب اليمنية، وحشرت كتلتها وتنظيمها في زاوية الجماعات المارقة على المستوى المحلي قبل الدولي والإقليمي.
وبعد مقتل صالح شعر الجميع أن تقسيمات وتعريفات الحرب تغيرت، فالتحالف العربي وعلى رأسهم الإمارات أدركت بحسابات الجغرافية السياسية قبل إدراكها العسكري أن ميزان الشمال اليمني اختل وانحدر نحو جماعتين إسلاميتين (الحوثية ، والإخوان بحزب الإصلاح).
مراره اللحظة تجلت في لقاء جمع قيادات حزب الإصلاح مع صانع القرار الإماراتي، وتحت مظلة سعودية. يومها شعر الإخوان المسلمون "حزب الإصلاح" بحلاوة النصر الحوثي على المؤتمر وصالح.. وبينما انحسر نفوذ جماعة الحوثي عسكريا وشعبيا في مناطق سيطرتها، أخذ الإصلاح يجني مكاسبه المجانية باعتباره صاحب القوة الثانية في ميزان الشمال.
وقد حاول حزب الإصلاح استثمار الحدث، واستكان للتهدئة مع الإمارات، وذهب ليقطف الثمار، فيما هو يثق كليا أنه الوريث الشرعي الوحيد لانتصارات التحالف في الشمال، فبادر ليثبت حسن النية وأسهم إلى حد ما في إسقاط محافظة شبوة من حصيلة جغرافيا الحوثي، وسادت لحظة تهدئة إعلامية وسياسية مع أبوظبي.
لكن برغماتية الإصلاح لم تخف حساباته الضيقة والتي عززتها تقديراته السياسية الجديدة باعتباره القوة الثانية القادرة على منافسة الحوثي، والقوة الأولى القادرة على وراثة الشرعية بمفهومها الغنائمي، وبالتالي استثمار "صدمة ديسمبر" لتعظيم المكاسب بدلا عن بناء التوافقات. مستعيدا بذلك نشوة العام ٩٤، ومقتنعا أن الخارطة الجغرافية والسياسية والعسكرية ما زالت هي ذاتها خارطة "الجمهورية اليمنية"، التي انهارت كليا عقب انقلاب الحوثي وتدخل التحالف وأخيراً مقتل صالح، وتمظهرت أمام الجميع حقائق جديدة وقوى جديدة وتوزانات أجدد.
- الانتقالي حقيقة سياسية وعسكرية
أفرزت الحرب في جنوب اليمن قوة جديدة، "المجلس الانتقالي"، الذي كان نتاج تراكمات لحراك الشارع الجنوبي، ومعارضته لسياسات صنعاء، منذ حرب 1994م ، واليوم استطاع عيدروس الزبيدي وشلال شائع ونخبة من القيادات العسكرية والمقاومة الجنوبية، تكوين كتلة سياسية وازنة أصبحت الممثل الأقوى لتيارات الحراك الجنوبي.
وعليه بات المجلس الانتقالي القوة الأولى في المجال السياسي جنوب اليمن ينازع وينافس حزب الإصلاح وحكومة الشرعية على المشروعية السياسية والعسكرية، فيما عجزت كلتا القوتين عن احتواء اللاعب الجديد ودخلت معه في صراع لا يوجد فيه فائز أخير حتى الآن، لكن الميزان يميل نحو الانتقالي جنوبا، بدعم وغطاء دولة الإمارات العربية المتحدة.
- تحالفات جديدة.. طارق صالح عامل جديد لتوتير الملعب السياسي والعسكري
في جنوب اليمن والعاصمة المؤقتة عدن حاول حزب الاصلاح تأجيل جولة المنافسة الأخيرة كي يتمكن من استثمار اختلال ميزان صنعاء، وتثقيل مكاسب الحرب أكثر، ووضع شروط أكثر على التحالف.
غير أن حضور طارق صالح العسكري وما سيتبعه من حضور سياسي مثل حالة اندهاش عام تباينت إزاءه مواقف القوى المحلية والإقليمية الفاعلة في الساحة اليمنية:
هادي ومعه حزب الإصلاح، سجلوا رفضا مشروطا لحضور طارق إلى أن يعترف بالشرعية وينخرط ضمن قواتها.. وعكست اشتراطات الشرعية قدرا من الخوف نظرا لقدرة طارق صالح على إعادة ترتيب صفوف حزب المؤتمر والقوات الخاصة التابعة له وتكوين تيار ثالث ينافس الشرعية ومن خلفها الإصلاح في مكاسب الحرب لاسيما شمالا، وهي الساحة التي يريدها الإصلاح ومحسن حصرية لهم، ولعلهم يتشاركون بهذا الهدف مع جماعة الحوثي.
أما دولة الإمارات فقد كانت بأمس الحاجة إلى استعادة أنفاسها وإعادة ترتيب الخارطة السياسية شمالا، لذا فقد عملت على احتواء طارق ومنحته مشروعية ضمن كتلة التحالف وترتب به معسكرات ستعمل من خلالها على المنافسة شمالا.
ونظرا لاختلال ميزان القوى اليمنية وتعارض مشاريعها واختلاف تعريفاتها للحرب والمشروعية السياسية، والتي عبرت عنها حالة الصدام العسكري أحيانا بين الانتقالي وقوات الشرعية وأحيانا أخرى بين الانتقالي وحزب الإصلاح.. ورجحان الميزان السياسي في مصلحة القوات المنضوية تحت مظلة الشرعية، ومحاولات الانتقالي منح وجوده مشروعية سياسية محلية وإقليمية ودولية كممثل عن القضية الجنوبية بعد اكتمال تثبيتها عسكريا.. ورجحان الكفة السياسية في الشمال لمصلحة الحوثي والإصلاح؛ فإن ظهور طارق صالح في الساحة العسكرية والسياسية باعتباره متغيرا ثالثا في المعسكر المناوئ لميليشيات الحوثي، أعاد ضبط توازنات القوى.
ومثل تحالفه مع المجلس الانتقالي مكسبا سياسيا للطرفين، فالانتقالي يحتاح قوة شمالية تنافس وتزيح حزب الإصلاح في حاضنته الأساسية، بالتالي تضعف نفوذ حزب الإصلاح والشرعية في تلك المناطق مما سينعكس سلبا على نفوذهم جنوبا، كما أن الانتقالي لن يبقى وحيدا في مواجهة تحالف قوى الشرعية.
وفي ذات الوقت يحتاج طارق لمشرعن وحليف يسنده ويحميه جنوبا من مكائد الشرعية، التي لن تقبل ببقائه سياسيا فقط فكيف بالوجود العسكري في مناطقها وتفضل لو بقي طارق في صنعاء أو أنه مات، وعلى هذا الأساس استطاع الانتقالي وطارق رسم وضبط قواعد تعامل وتحالف سياسي وعسكري، تجلت في كلمة عيدروس الزبيدي حين قال سندعم مقاومة شمالية ونرفض وجودا عسكريا شماليا على شكل سلطة ونفوذ.
هنا استطاع عيدروس فعليا تحقيق هذا الهدف حين تحالف مع طارق وحين قاد تحركات عسكرية قضت على وجود معسكرات الحماية الرئاسية، وذات الأمر استقبل طارق صالح تصريحات عيدروس بترحيب واسع وقال معركتنا شمالا وقد بدأت قواته عمليا بالتحرك نحو الساحل الغربي لتلبية مهامها القتالية.
وفي المقابل يجاهد حزب الإصلاح من داخل كتلة الشرعية لعرقلة دخول طارق صالح عمليا ميدان المعركة العسكرية، وقضم مناطق جديدة في الخارطة اليمنية، ما سينعكس سلبا على نفوذ حزب الإصلاح شمالا وجنوبا، وفي انتظار هذا الدخول يحاول الإصلاحيون قدر استطاعتهم تشويه حقائق اللحظة والضغط على التحالف، خصوصا دولة الإمارات لكبح حليفهم الجديد، لتلحظ التخبط الواضح في مواقفهم، وتصريحات وأقلام كتابهم وناشطيهم، التي تتماثل وتتناسخ مع تخوفات جماعة الحوثي من ذات الأمر، فبدخول طارق صالح يصبح كلا الطرفين خاسرا أمام مكسب سيسجله المجلس الانتقالي وطارق صالح.
فهل ستكبح ضغوط الإصلاح والشرعية طموح طارق صالح شمالا، وإلى متى ستقطع الطريق أمام احتواء الرياض للمجلس الانتقالي وحزب المؤتمر في معركة استعادة الدولة.