حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

قضية سقطرى والحساسيات الانتقائية

Thursday 10 May 2018 الساعة 08:52 am

تسببت جزيرة سقطرى، مؤخراً، في خلاف علني حاد بين الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا من جهة، ومن الجهة الأخرى دولة الإمارات العربية المتحدة، العضو الأساسي في التحالف العسكري بقيادة السعودية.
انعكس الخلاف بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي التي شهدت عراكاً ساخناً بين فريقين من الناشطين اليمنيين المنخرطين في استقطابات الانقسام الخليجي.
أحد الفريقين يتكوّن ممن أيدوا التحالف العسكري الذي تقوده السعودية، منذ انطلاقه في 2015، بمشاركة فاعلة من الإمارات. لكن، مع مرور الوقت، أخذ هذا الفريق يفرد للإمارات موقفا سياسيا وإعلاميا مناوئا له علاقة، أولا، بسياسة الإمارات المعادية للإخوان، وله علاقة، ثانيًا، بالحصار الذي تفرضه السعودية والإمارات على قطر، كما إن جذوره، ثالثا، تمتد إلى الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر، وله علاقة، رابعا، بالجفاء وحالة عدم الارتياح المستحكمة بين الرئيس عبدربه منصور هادي المتواجد في المنفى، والقيادة الإماراتية.
لهذا السبب بدأوا يطلقون وصف "الاحتلال" كأسلوب للتنديد بمظاهر وأنشطة التواجد العسكري الإماراتي، في جنوب اليمن على وجه الخصوص.

بالمقابل يتصدى لهم فريق آخر من الناشطين اليمنيين. هذا الفريق يضم مجموعة لم تلتحق بالتحالف الذي تقوده السعودية إلا في الأشهر الأخيرة بعد فرارهم من الملاحقة في الجغرافيا التي يحكمها الحوثي، فكانوا من حصة الإمارات على مستوى الإيواء في مناطق نفوذها جنوب اليمن، وعلى مستوى التمويل والإعداد، وذلك في سياق برنامجها لبناء وضع خاص في إطار التحالف، وضع لا يزال محاطا بالغموض من ناحية ما إن كان منسجما تماما أو على تعارض مع أهداف السعودية وحدود ما تسمح به. 
يقول هؤلاء في موضوع سقطرى عكس ما يقوله أولئك. وهكذا! 
(هذا لا يعني أنه لا يوجد قطاع كبير من نشطاء وكتاب يمنيين مستقلين وقيادات حكومية شاركوا في استهجان ورفض سياسة الإمارات من منطلق وطني آخر، مرتبط أحيانا بالوحدة اليمنية نظرا لأن الإمارات تدعم بالفعل فصيلا سياسيا جنوبيا يسعى للانفصال، أو مرتبطا بالخشية من أطماع تلوح لهم مريبة حول سقطرى).
لقد حدث هذا العراك على الرغم من أن المسألة برمّتها، في ظل الوضع القائم للبلاد، تخص التحالف السعودي وأطرافه الفاعلين، لا سيما السعودية والإمارات. وبالتالي هما المعنيان بمعالجتها والبت فيها على اعتبار أنها شأن تنظيمي وسياسي داخل التحالف نفسه.

السعودية بالدرجة الأولى هي المعنية بتحديد موقف من تحركات الإمارات وسياستها، وتوضيح ما إن كانت تجري بتنسيق معها ومع تحالف دعم "الشرعية" أم بشكل منفرد.

الجدير بالملاحظة هو أن كلا الفريقين خاضا في القضية إما بحشد الدلائل التي مفادها التهوين من سياسة وتحركات الإمارات في سقطرى، ومحاولة تسويغها أخلاقيا أو حتى إضفاء بعد وطني أو واقعي على الموقف منها. أو بحشد الدلائل لإدانة الإمارات واستهجانها وطنيا وأخلاقيا وبصورة انتقائية مع قدر من المغالاة المصطنعة حد الإسفاف.

هناك حقيقة لا يمكن حجبها وهي أن البعض يكون حساسا تجاه تدخلات طرف إقليمي بينما يفقد كل حساسيته تجاه تدخلات طرف إقليمي آخر. لنفترض أنه بالإمكان إجراء عملية، على درجة من الدقة والنزاهة، لتقييم وتمحيص الممارسات والخطابات والسياسات من وجهة نظر "الوطنية" على مدى الأعوام السبعة الماضية مثلا، فمن غير المعقول أن يعتمد القياس فحسب على قضة سقطرى دون غيرها!
الاحتكام لمعايير وأخلاق الشرف الوطني، من شأنه أن يضع الجميع تحت طائلة الإخلال والتفريط بطريقة أو بأخرى. 
لهذا، فإن القليل من التواضع الأخلاقي ليس سيئا على الإطلاق! 
نحن في ظرف تاريخي ملتبس بحيث تفقد فيه أحكام القيمة وزنها ودلالتها وسلطانها. المعايير التقليدية للوطنية اليمنية معلّقة إلى حين. فالانتهاك طالها كلها من جميع الأطراف تقريبا وبدرجات متباينة. كل سلوك شائن له سوابق ونظائر تبرره.
لا مفر من أن يقبل الجميع حاليا بحقيقة وجودهم ضمن خيارات منقوصة من الزاوية الوطنية والأخلاقية التقليدية. لا مفر من الاعتراف بأن "الضرورة" وأحكامها، وليس المبادىء والمثل الوطنية، هي من أصبحت تقود وتحدد الخطى والمواقع والمواقف والاختيارات بالنسبة للكثير من الأفراد والجماعات. 
وأحيانا تلعب الجهالة وضيق الأفق والانحطاط الخلقي دورا حاسما في تحديد الاختيارات والمواقف.
من الصعب تماما توفير أساس مترابط ومتناغم، أخلاقيا ووطنيا، لأي من الخطابات والمواقف السياسية للأطراف الفاعلة، إلا عبر اللجوء إلى التلفيق والتزوير والشطط وغض الطرف. 
المفاضلة بين قطر والإمارات تتم على أسس بعيدة عن أولويات الشرف الوطني ومرجعياته ومنطقه السياسي. 
وبالنسبة لمسألة "الوطنية"، فالملاحظ أن كل طرف يأخذ منها ما يحتاجه وما يستطيع حمله فقط، ويتخلى عن الباقي إما راضيا أو مكرها. 
الحوثي مثلا، لديه خطاب يأخذ فيه من الوطنية الجزء المتعلق بالسيادة بمعناها البسيط، ويسمح لنفسه بانتهاك شروط ومقومات جوهرية أخرى للوطنية.. النظام الجمهوري مثلا والشرعية الدستورية والديمقراطية. كما أن تكوين جماعته وممارساتها وطريقة صعودها تتعارض مع أبجديات الوطنية اليمنية. فجماعة الحوثي تنظيم يتسم في نشاطه بسمات تهيِّج وتنمِّي الطائفية والانقسام، ويرفع شعارات تخدم دولة إقليمية تتنافس على النفوذ في المنطقة.

خصوم الحوثي من جانبهم لديهم خطابات متعددة تأخذ من الوطنية مسألة الشرعية الدستورية أحيانا، أو الحميّة على النظام الجمهوري ضد "الكهنوت" الحوثي، أو رفض الهيمنة المركزية أو مناهضة النفوذ الإيراني بمنطق يستدعي القومية العربية طبقا لحاجة السعودية. لكن أصحاب هذه الخطابات يتجاهلون أنهم ينتهكون قيما وطنية أخرى مثل السيادة بكافة معانيها، ووحدة التراب الوطني، بل حتى فكرة الشرعية الدستورية. وكثيراً ما يسقطون في ممارسات طائفية ومناطقية من النوع الذي يستنكرونه في الحوثي.
(في الوقت الحالي، الوطنية المعادية للسعودية ليست أصيلة ولا وطنية في منطلقاتها بل هي مجرد قشرة رقيقة تخفي تحتها ايديولوجيا إسلام سياسي طائفي. والوطنية المعادية للحوثي ليست أصيلة ووطنية في منطلقاتها بل هي مجرد قشرة رقيقة تخفي تحتها باقة من حركات الإسلام السياسي المنطوية على بعد طائفي أو مناطقي وجهوي).

وهنا يأتي السؤال: أي شكل من أشكال الوطنية هو الصحيح؟ في الوقت الحالي الحرب هي الأداة المكلفة بالفصل في هذا الأمر. إذا أخفقت الحرب في فرض شكل واحد من أشكال هذه الوطنيات المنقوصة وتعميمه على حساب بقية الأشكال، فما هو الخيار حينئذ؟ 
في هذه الحالة، سيكون الخيار هو البحث عن طريقة للتعايش بين هذه التصورات والمفاهيم والتنازل بعضها للبعض الآخر لتأليف مفهوم مشترك للوطنية تتقاسمه جميع الأطراف. إذا أخفق هذا الخيار، فإن ذلك (قد) يعني تثبيت خطوط التقسيم التي أنتجتها الحرب بين مجالات النفوذ الجغرافي لكل شكل من أشكال الوطنيات الناقصة والخطابات المضادة للوطنية الجامعة.