التحولات السياسية في حياة الشعوب تكون غايتها دوماً تأسيس عقد جديد تنتقل فيه المجتمعات من عهود الاستبداد والكهنوت والفساد نحو حياة ديمقراطية حقيقية تضمن قدرا معقولا من السعادة للفرد، بمعنى أنها عملية تحويلية شاملة تسمى الانتقال إلى رحاب الديمقراطية والحياة المدنية للحاق بركب الأمم في التقدم والعلم والازدهار، وهذه معركة تاريخية بين مشروعين كبيرين متناقضين بشكل جذري:
مشروع يمني ديمقراطي نير وعصري، يتطلع له كل يمني حُر وشريف مؤمن بالكرامة والعمق التأريخي والحضاري لليمن، ويؤمن أيضا بقبول الآخر ومشاركة الحركات النقابية العمالية وجميع الطيف الجمهوري بلا استثناء في بناء الوطن وصولاً للمستقبل المنشود..
ومشروع استبدادي كهنوتي عتيق معادٍ للديمقراطية على اعتبارها بديلاً عن الخلافة الإسلامية أو لمبدأ الولاية.
بطبيعة الحال هذه المعركة التاريخية الكبرى المحتدمة منذ ثورة 26 سبتمبر الخالدة بين الجماهير المتطلعة لدولة عادلة ومجتمع حر، وبين قوى انتهازية، ثقافتها الاستبداد والعبودية المشدودة إلى الخلف والمتقوقعة في خرفات وأوهام مذهبية وطائفية مقيتة من جهة أخرى، هي معركة حضارية تستدعي الاستثمار الفكري والسياسي والاجتماعي والأخلاقي الطويل، وتتطلب جهداً متواصلاً من قبل النخب الاجتماعية وفي طليعتها المثقفون، وقبل هذا وذاك تتطلب فهماً عميقاً وسليماً لجوهر هذا الصراع.
إلا أن الحقيقة المؤسفة هي أن غالبية النخبة السياسية اليمنية هي نخبة فقيرة فكريا و ثقافيا وبنفس الوقت هي نخبة جائعة في معظمها، الأمر الذي جعل الطمع ميزتها الأساسية، ولهذه الأسباب، رأينا نخبة تدعي الحداثة والتقدم وتتحدث عن القيم الوطنية والحرية والعدالة والديمقراطية، تعمل هذه الأيام وتصطف بكتابها وناشطيها ومثقفيها بل وساستها مع المشروع النقيض وتتماهى مع أهدافه وتلمعه بطريقة أو بأخرى، كل ذلك من واقع حقد وفجور في الخصومة مع بقية الأطراف الأخرى.
الطمع والجهل وانعدام المسؤولية وغياب البوصلة والأحقاد والفجور السياسي خصوصا منذ 2011، لدى النخبة السياسية الجمهورية في اليمن وخصوصاً الأحزاب الدينية، عطل عملية إعادة بناء الوعي الوطني، ومنظومة إعادة بناء القيم، وعطل ترميم قنوات تواصل النخبة فيما بينها وتفاهمها الاستراتيجي حول قضايا الإجماع الداخلي، والتطلع الجماهيري، وبالنتيجة تعطل التفاعل والتضامن بين أفراد المجتمع كشرط من شروط العيش المشترك..
وما يزيد في تعميق أزمة هذه النخبة الفقيرة التي ضحت بالوطن والمواطن في أتون خلافاتها، هو أننا لم نعش على امتداد تاريخنا الطويل، ولم نعرف معنى السياسة الحديثة من حيث هي مشاركة جميع أعضاء المجتمع في بناء الوطن وتقرير شؤونه، وتتحد الجهود للوصول للمستقبل المنشود، إن كنا نؤمن فعلاً بمبدأ "الوطن أنا وأنت ، وليس إما أنا أو أنت".
ونتيجة لحالة الصراع السياسي العقيم بين النخب الجمهورية من الطبيعي أن تعود آمال وطموحات العهد الإمامي البائد، لتحلق بالوطن دمارا وحربا، وانتقاما من الثورة الجمهورية السبتمبرية الخالدة ورموزها وكل من يتمسك بها.
وما دمنا في هذه الحال، وفي ظل نخبة لا تفهم الأولويات، ولا هم لها سوى الكراسي والانتقام، من الطبيعي أن تستمر الحركات الدينية المتشبثة بالماضي وعقدها القديمة والموروث البالي الذي لا يتناسب مع العصر الحالي والمستقبل، ما دامت النخب التي يعول عليها الوطن والشعب لا تنتج سوى شعارات الأحقاد والانتقام، وتزيد من تمزيق النسيج الاجتماعي..
فالخلل والعلة والمصيبة في النخبة، التي لم تلتفت لتطلعات الأغلبية الشعبية في الوصول لحالة الوئام والسلام حفاظاً على النظام الجمهوري والوحدة بما يتناسب مع الوضع واختلافاته، على الأقل كتكفير عن ذنب الخروج للمطالبة بإسقاط النظام، وإسقاط الدولة ووصول البلد لما هو عليه اليوم،.
إن نخبة سياسية واعيه في حجم اللحظة التاريخية هي المطلب الشعبي، فهل سنرى اتفاقاً سياسياً يتسامى فوق الجراح، من أجل الحفاظ على النظام الجمهوري الذي يتعرض لأبشع هجوم معاد منذ تفجر ثورة 1962، لتتجه الجهود أيضا نحو بناء ثقافة وطنية مستمدة من عمق التأريخ اليمني، لا من عقائد دينية ومذهبية أو مناطقية وحزبية وجهوية، لأن مهمة ترسيخ مفهوم النظام المدني القائم على احترام الأفراد ومشاركتهم جميعاً في الحياة السياسية، وتطوير وعيهم وتعميق شعورهم بالمسؤولية عن مجتمعهم، عن حماية وطنهم، عن ضمان مستقبل الأجيال، ليس شرطاً لبناء جماعة سياسية حية وفاعلة بعينها فحسب، بل يشكل ولادة مفهوم المصلحة الوطنية، أي نشوء رؤية وطنية تساعد الأحزاب والأفراد على النظر أبعد من مصالحهم الشخصية، أو بمعنى أبسط، نشأة أحزاب ومواطن حقيقي يضعون مصلحتهم الفردية ضمن قاعدة القانون، وكل ذلك يحتاج لعقول وطنية ونخب سياسية ثقافية في معركة بناء المستقبل، لا معارك الكراسي والتفاهات.