برّر أمير قطر السابق "حمد بن خليفة" انقلابه على والده، بدعم أميركي في (27 يونيو 1995)، بدوافع عدة. أهمها تجاهل العالم لبلده.. وحكى أنَّه أثناء دراسته في أكاديمية "ساندهيرست" كان ينزعج من سؤال موظفي المطارات عن موقع "قطر"، لأنَّها لم تكن شيئاً مذكورًا.
ولأجل التعريف ببلده؛ استغل طلب السعودية من الولايات المتحدة إجلاء قواتها من حفر الباطن بعد تحرير الكويت عام (1991)، لانتهاء مبرر بقائها، ووجد في غضبهم فرصة سانحة (وكان وليًّا للعهد) فوقّع معهم اتفاقية للتعاون الدفاعي.
وبعد انقلابه، طلب حماية، خوفاً من تدخل "السعودية" التي دعمت والده لاستعادة كرسيّ الإمارة، وسمح بدخول لواء عسكري أميركي مُجهز بأحدث الأسلحة والعتاد، إلى جانب ترحيبه بفتح مكتب تمثيل إسرائيلي في الدوحة.
ومع إصرار الأميركان على إنشاء قاعدة عسكرية في الجزيرة العربية والخليج، في ظل تمنُّع الملك السعودي الأسبق "فهد بن عبدالعزيز" وتهرّب الرئيس اليمني السابق "علي عبدالله صالح"، وتذرّعهما بما قد يسببه الوجود الأميركي في "حفر الباطن" أو "سُقطرى" من تنامي الحركات الإرهابية في بلديهما، على الرغم من مساندة الولايات المتحدة للأول "عسكريًّا" في حرب تحرير الكويت، وللثاني "سياسيًّا" في حرب مواجهة الانفصال. لم يكتفِ شيخُ قطر بالموافقة على استضافة قاعدة أميركية في منطقة "العديد" فحسب، وإنما تطوّع بتكاليف إنشائها على نفقة دولته، لتكون "أكبر قاعدة" عسكرية أميركية لسلاح الجو في العالم، ووسّعها في (2003)، لتصبح مركزًا للعمليات الجوية القتالية الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط.
وأسس أيضاً قاعدة "السيلية" للقوات الأميركية البرية، بحيث تتسع لـ(11) ألف مقاتل من قوات المارينز. وانتقلت لها القيادة العسكرية الأميركية في سبتمبر (2001)، وإبريل (2003) للإشراف المباشر على الحربين اللتين شنتهما الولايات المتحدة على جماعة "طالبان" في أفغانستان، ونظام "صدام" في العراق.
ولا تزال قطر تتكفل بـدفع (60) في المئة من النفقات التشغيلية والعسكرية لهاتين القاعدتين من محصول الغاز والنفط.
ولكي لا تظل قطر مجهولة عند موظفي المطارات، كما قال أميرها (المُلقب بالوالد منذ خمس سنوات)، استحدث قناة الجزيرة في (نوفمبر 1996).. وقدَّم من خلالها قيادات الإخوان المسلمين المتناثرين في أصقاع العالم مُتيحاً لهم ولغيرهم العمل بحرّية كاملة ضد كل الأنظمة العربية، عدا الموالية للدوحة.
وكسب بواسطتها المُشاهد العربي الذي لم يكن معتادًا على حرية الإعلام؛ لأنّ أنظمته فهمت القوة الناعمة على أنّها هز النواعم لأردافهن في فضائيات الرقص والغناء.
والحق أنني من مُعجبي الجزيرة مع ملاحظاتٍ حول تسخيرها لخدمةِ أجندات سياسية. ولذلك فوجئت باختفائها من شاشة غرفتي في فندق "ريتاج الريان" في الدوحة أثناء حضوري الاجتماع السنوي لـ"اتحاد الصحافة الخليجية" المنعقد هناك في (ديسمبر 2008)، وكُنت من أعضائه بعد إقراره إضافة صحيفة "الجمهورية" من اليمن.
وعند استغرابي، في اتصال لموظف الاستعلامات، أوضح بأنّها لمن يرغب فقط، وأنا منهم.
أمّا المواطن (حسبما فهمت لاحقاً) فلا ترغب إمارته بإزعاجه وإقلاق سكينته. فهو يعرف أنَّه "قطري".. خلافاً لموظفي المطارات الأجنبية.
.. وبذلك كله: ضمِنت قطر رضا إسرائيل.. ودعم الأميركان.. وولاء "الإخوان" الذين استخدمتهم لاحقاً لتصفية حساباتها مع خصومها بسبب تأثيرهم في الشارع العربي.
في تلك الفترة كان نظام الرئيس صالح يحظى بدعم دولي كبير؛ بسبب تبنيه للديمقراطية والحريات السياسية والصحفية.. فتحالفت معه دولة "قطر" نكاية بجيرانها الذين قاطعوه لموقفه من احتلال "صدام" لدولة الكويت.. حتى إنّ قناة الجزيرة كانت تبث مقاطع من خطاباته في فواصل نشراتها.
وكشف صالح في آخر مقابلة تلفزيونية له مع قناة "اليمن اليوم" نهاية (يونيو 2017) أنَّه من أبلغ أمير قطر عام (1996) عن المخطط الانقلابي الذي كان يُحاك ضده من مواطنين قطريين. ذكرت المعلومات أنّهم ينتمون لقبيلة "المرّي" واتهمت قطر السعودية بدعمهم.
وترافق ذلك مع احتضان صنعاء مؤتمرات تصب في نشر الديمقراطية وتعزيز الحريات، منها: "مؤتمر صنعاء حول الإعلام الحر والمستقل" عام (1996) بمشاركة منظمة اليونسكو، ثم "منتدى الديمقراطيات الناشئة" عام (1999) بتنظيم من المعهد الديمقراطي في صنعاء.
إلاَّ أنّ هذا المنتدى الذي كان يُراد له الديمومة، توقف في العام التالي مع توقيع اتفاقية الحدود بين اليمن والسعودية (يونيو 2000)، وما ترتّب عليها لاحقاً (بعد اتهام متشددين للحكومة بالتطبيع) من إقالة الدكتور عبدالكريم الإرياني من رئاسة الحكومة، (وقد كان ورقة صالح الضاغطة على السعودية). فتفرغ لتأسيس "منتدى جسور الثقافات".
وانتقلت فكرة المنتدى في العام الذي يليه إلى إمارة "قطر" باسم مختلف هو "منتدى الدوحة للديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة"، وكان من أبرز حضوره وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي روني ميلو...
وأتذكر أنّ أولى زياراتي للدوحة كانت في (إبريل 2006) للمشاركة في فعاليات هذا المُنتدى تلبية لدعوة من منظميه.
وكان لافتاً قبلها بعام في المنتدى الخامس (مارس 2005) تحذيرالدكتور "عبد الكريم الإرياني" في جلسة خُصصت لدعم الأقليات في مشروع الشرق الأوسط الكبير، من انحراف الرؤية الأميركية التي كانت تقوم على "دعم الديمقراطيات وتعزيز الحريات"، (قبل أحداث 11 سبتمبر وهو أحد مؤيديها) إلى "دعم الأقليات على أساس عرقي أو طائفي".. وتقسيم الصراع الإسلامي إلى سني وشيعي..
وتساءل مستنكراً: عن موقف واشنطن في حال أفرز صراع الطوائف دِولًا معاديةً للديمقراطية.. وتبعات ذلك على الشرق الأوسط.
وتعدّى اهتمام "الدوحة" صراع المذاهب الإسلامية، إلى المذاهب في الديانات الأخرى، ومنها المسيحية.. فأسست المَجمع الكنسي في منطقة "مسيمير".. وهو مكوّن من خمس كنائس تشمل كل الطوائف المسيحية (الأرثوذكس، الإنجيليين، البروتستانت، والكاثوليك)، وفيه كنيسة "سيدة الوردية" التي شيّد لها الشيخ "حمد" مبنى على أرض تبرع بها، يضاهي كبريات الكنائس في أوروبا.. كُلفته عشرين مليون دولار.
تدريجيًّا.. تحولت القوى الناعمة داخل اليمن وخارجها من أدوات دعم لنظام صالح إلى معادية له، فيما اكتفت السعودية بترسيم الحدود.. وتركته بمفرده في مواجهة فوضى الدوحة.. التي صارت أكثر عدوانية بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق.
وكثفت من اهتمامها الذي بدا غريبًا بخلق كيانات صغيرة مثل "البهائية".
ثم استقطبت سفارتها في صنعاء مجموعة من الإسماعيليين القاطنين في المحافظات المحاذية للسعودية.
ولم يَسلم منها حتى اليهود اليمنيون.. ففي شتاء (2013)، هبطت طائرة قطرية في مطار "بن غوريون" الدولي في إسرائيل، ونزل منها (60) يهوديًا نقلتهم الدوحة بالتواطؤ مع الحكومة من صنعاء إلى تل أبيب..
غير ذلك، أفصح الشيخ "حمد بن جاسم" رئيس الوزراء السابق في حواره مع قناة قطر المحلية (أكتوبر 2017) عن دعم بلاده لـ"الأقلية الزيدية في اليمن" (مع أنَّ أتباع المذهب الزيدي ليسوا أقلية)..إلى جانب اعترافه بدعم الإرهاب في سوريا وليبيا.
كما قدمت "دوحته" ملايين الدولارات لتنظيم "القاعدة" في اليمن على شكل فديات لرهائن غربيين اختطفتهم، وكان آخرها (15) مليون دولار في (2013) لإطلاق رهينة سويسرية.. كما أنّها تَنشط في دعم الإرهابيين تحت لافتة العمل الخيري في عديد من المحافظات وبصورة مكثفة في البيضاء وتعز.
وحتى "المسيحية" (التي كان وجودها في اليمن مقتصرًا على الأجانب أو عائلات محدودة، من أصول هندية، في محافظة عدن الجنوبية)، تم استثمارها لجلب الإرهاب لبعض المحافظات وبخاصة مدينة تعز التي كان الناشطون الإسلاميون فيها يتداولون همساً إشاعات عن مراكز ومنظمات تنشط في مجال "التنصير" بطرق خفية وغير مباشرة. حتى تحول الهمس إلى مجاهرة وتحريض منذ عام (2012) في خُطَب وفتاوى وكُتيبات أصدرها مشايخ على صلة بجمعية "قطر الخيرية". ومع الأسف لم تُعالج تلك الخطب والفتاوى خطيئة "التنصير" بوعي، بقدر ما خلقت مبررات للجماعات والتنظيمات الإرهابية للإعلان عن نفسها في "تعز" والسعي لتحويلها إلى إمارة دينية على نمط طالبان.. وأسوة بما فعلته في محافظة أبين منتصف عام (2011).. والمتمعن في الأماكن التي صارت أوكاراً للجماعات المتشددة سيجد أنّها نفس الأماكن التي كانت فيها تلك المراكز والمنظمات !
وقوبل التحريض على تلك المراكز بإشهار علني مُصطنع لأقلية مسيحية لا وجود لها في الواقع؛ فتم تحوير أغانٍ يمنية لتصبح مُبشرة بالمسيحية، يرتدي المصريون المشاركون فيها من الجنسين أزياء شعبية من تعز..
وهذه الأغاني أنتجتها قناة قبطية تبث من قبرص، تترنّم بالرب "يسوع" المُخلّص! ومنها أغنية أيوب طارش "خذني معك".
وعلى الرغم من عدم توفر معلومات مؤكدة عن الجهة التي أنتجت ومولت إخراج تلك الأغاني المحرفة، غير أنّها بالتأكيد داعمة لفكرة الأقليات التي صارت موضة القرن الحالي، ومستفيدة من تحويل تعز إلى حاضنة للتطرف.
إذن، فنحن أمام إمارة للغرائب والمتناقضات.. استغل أميرها ذكاءه وأموال شعبه في صناعة الخراب.
إمارة.. تدعم داعش والقاعدة وتستعين بالإخوان وتشارك ايران وتستضيف حماس وتلعن سنسفيل إسرائيل، وتعمل علاقة رسمية مع اليهود.
فضائيتها تهاجم "الولايات المتحدة" على الهواء أو في تسجيلات خاصة كان يرسلها "أسامة بن لادن" شخصيًا وخليفته "أيمن الظواهري"، ولا ترى غضاضة في توظيف مقربين من جماعات الإرهاب تقدمهم طُعماً للمخابرات الأميركية لانتزاع معلومات منهم كما حصل مع مراسلها "تيسير علوني" و مُصورها "سامي الحاج" الذي استوحى الروائي المصري "يوسف زيدان" من قصة حبسه (باتفاق مع قناة الجزيرة) ثُلاثيته الروائية: "مُحال" و"جوانتنامو" و"وردة". واختلفوا معه عقب تلميحه عن ولادة ونشوء ثورات "الربيع العربي" في أروقة المخابرات الأميركية.
قطر.. تحتفي بالشيء ونقيضه.. وترعاهما معًا.. وحاكمها الوالد مُغرم ببرنامج "الاتجاه المعاكس" ويدير علاقات بلاده مع الجيران على طريقة المذيع "فيصل القاسم" مع ضيوفه. متجاهلًا أنّه بنفس المستوى من الاستبداد والديكتاتورية التي ينتقدها في حكام مصر أو بقية دول الخليج لولا أنَّه أكثر بدانة وتهوراً ومالاً.
مرت سنوات توّهم فيها والد أمير "قطر" الحالي قدرته على "التهام" السعودية عقب تفككها الذي روجت له خرائط صفقة القرن. ولذا روّج بأنّه من آل الشيخ "محمد بن عبدالوهاب" وبنى باسمه جامعاً كبيراً وسط الدوحة، حرص على أن يستضيف كبار مشايخ السلفية للخطابة فيه.. وكانت "علاقة" السعودية مع قطر قد تأزمت منذ خلعِ الأمير حمد لوالده واتهامه للرياض بدعم انقلاب فاشل عليه.. وظلت تراوح بين شدٍّ وجذب، لدرجة أن السعودية قاطعت حضور قمتين إحداهما للدول الإسلامية والأخرى للعربية، عُقدتا في الدوحة عامي (2000) و(2009).. في الأولى احتجاجا على وجود ممثل تجاري لإسرائيل، وفي الثانية بعد اتهامها لقطر بدعم الحوثيين للتوغل في حدودها إبّان الحرب السادسة.. كما استدعت سفيرها في الدوحة مرتين: الأولى عام (2002) بسبب ظهور معارض سعودي في "الجزيرة".. والثانية في (مارس 2014) (وانضمت لها دولتا الإمارات والبحرين)، عقب تراجع أمير قطر الشاب بعد ضغط من والده عن اتفاقه السابق مع الملك عبدالله بوقف تمويل الإخوان المسلمين، والحوثيين، والمنظمات السياسية الناشطة تحت غطاء المجتمع المدني، ونفيه لكل ذلك مطالبًا السعودية بإثباتات.
وبعد أيام سارع لإبرام اتفاقية عسكرية مع "تركيا" (توجسًا من أي انقلاب عليه، وزيادة في الحيطة من تخلي أميركا عنه).
وأُنشئت بموجبها قاعدة عسكرية تركية (على طريق إعادة النفوذ التركي في المنطقة) بعد استفحال الأزمة بإعلان مقاطعة قطر في (6 يونيو 2017) من قبل السعودية، الإمارات، البحرين ومصر ..
تبعتها صفعة الرئيس الأميركي "ترامب" حين طلب من قطر الكف عن دعم الإرهابيين.. وبدلًا من أن تنفي كعادتها، برر وزير خارجيتها بأنَّ بلده ليست لوحدها في دعم الإرهاب.. وأظن اعترافه هذا يكفي ليخجل منه المدافعون عن قطر بالحق والباطل.
وقصة تورط قطر في دعم الاٍرهاب لخصتها قناة "الحرّة" الأميركية بالتالي:
بدأت بالتخطيط لبيع الغاز في سوق الطاقة الأوروبي الواعد، استجابة لرغبة دول أوروبا بتقليل الاعتماد على روسيا، من خلال مد أنابيب عبر سوريا، تنقل الغاز إلى تركيا.. حيث سيتم تسييله وتصديره إلى أوروبا، ونتيجة لرفض النظام السوري الحليف لروسيا، عمدت قطر لدعم العديد من المنظمات الإرهابية للقضاء على نظام الأسد مثل داعش وغيرها !
كما نشطت في زعزعة أمن الدول العربية التي قد تنافسها مستقبلًا، ومنها مصر المترقبة بحسب جريدة "نيويورك تايمز" لواحد من أكبر الاكتشافات البترولية في البحر المتوسط.
وليبيا المالكة لخامس احتياطي عالمي من الصخور البترولية.
قطر التي تُعد أغنى دولة في العالم وفقاً لنصيب الفرد من الناتج القومي، وتزعج العالم بصراخها العالي الشبيه بصوت "الصرصور الأسود" المسمى في اليمن "الصِرير" وفي الخليج "سوير الليل"، هي أيضًا أصغر دولة عربية إذ لايتجاوز عدد سكانها (300) ألف نسمة، ومع هذا تطمح إلى لخبطة كل الدول من حولها وإخضاعها لسيطرتها..
ويبدو أن لا حل منطقي أمام الدول المنزعجة منها أفضل من تبني "إصلاحات سياسية وإدارية وإعلامية" والتعجيل في عملية السلام..
وحينها ستصبح الفوضى التي تقودها شبيهة بفوضى الصغار ..
وستعود "قطرة" في الخليج محتقنة بالغاز، كما كانت. أو "زائدة دودية" مثلما وصفها كاتبٌ مصري ساخر.