حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

حصاد الحِس الأخلاقي المستعار

Wednesday 15 August 2018 الساعة 03:28 pm

القصة هي أننا كنا بلداً لم يمض على التحامه القومي بجميع أجزائه في كيان موحد سوى زمن قصير. وهذا يعني أن وجوده السياسي على كل الأصعدة كان لا يزال مجرد مشروع طري في بدايات التكوين والتحقق. لم يكن قد ترسخ فيه الوعي بنظام أخلاقي وطني، ولا ضمير عام راسخ الجذور يحدد الأخلاق الوطنية وضوابط السلوك ومعايير الشرف والعار والخطأ والصواب.

كانت القيم الوطنية الجديدة تكافح من أجل أن تتجذر وتندمج في عادات الناس وحياتهم اليومية، وكانت عمليات بناء وتثبيت سلطة الدولة تواجه تحدياً مزدوجاً: فهناك مقاومة تأتي من بنى أخلاقية وأنساق وتقاليد هي مزيج من الموروث الديني والعرف الاجتماعي، وهناك التحدي الآخر القادم من العالم المتحضر الذي يحاول فرض قيمه الخاصة وتعميمها كقيم للعالم بأسره.

وهكذا، فإن أي عملية لبناء نظام أخلاقي وطني كان عليها أن تشق طريقها في اتجاهين: أن تستوعب حزمة من التأثيرات التي مصدرها بيئة عالمية شديدة التغير؛ وفي نفس الوقت أن تراعي حقائق مجالها المحلي واعتبارات الوضع التاريخي الخاص لدولة ناشئة.

النخب السياسية اليمنية المعارضة، بتشكيلاتها المتباينة، أدارت ظهرها لقواعد وأطر النظام السياسي ومبادئ الوطنية اليمنية المعيارية، وسارعت إلى الانتماء، على طريقتها الخاصة، إلى بعض قيم وأخلاق الغرب المتحضر التي لا تزال محل نقاش في العالم كله، والتي لو فرضت قسرياً على بلدان متخلفة سياسياً (مثل السعودية) بحيث تغدو هذه القيم مرجعية يتم الاستناد إليها لتسويغ وشرعنة أو إدانة ضروب النشاط العام لكانت كفيلة بتفكيك كيانها وإغراقها في الوحل (لاحظوا الأزمة الدبلوماسية الناشبة مؤخراً بين كندا والسعودية بعد تصريحات لمسؤولين كنديين تنتقد الاعتقالات التي تنفذها المملكة ضد ناشطين وناشطات ورجال دين).
لقد رأت النخب اليمنية في هذه المعايير والقيم العولمية ما يشبه الطريق الالتفافي الذي يقودها إلى مراميها في وقت أقصر.

راحت هذه النخب، المفتقرة للحس التاريخي، تحاكم الأحداث والسلوكيات العامة وتحدد موقفها منها بحساسية أخلاقية مستعارة تبرر نفسها نظرياً بالاستناد إلى قيم ومعايير سلوك العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تكن هذه القيم قد تحولت بعد إلى مقياس معياري وطني محدد ومتفق عليه وبما ينسجم مع شروط الواقع الاجتماعي والطور التاريخي لليمن ومتطلبات بناء الدولة.

وحدة التراب الوطني، مثلاً، تعتبر قيمة وطنية معيارية عليا بموجب دستور البلاد وحتى القانون الدولي (قبل أيام قال المبعوث الأممي غريفيث في حوار مع الشرق الأوسط: أؤمن بسيادة ووحدة وأمن أي دولة، التي هي قيم الأمم المتحدة)، لكن خلال معارضتها لحكم صالح، أصبح من الجائز بالنسبة للنخب السياسية والصحفيين انتهاك هذه القيمة والنيل منها باستخدام مفهوم مشوش عن الديمقراطية كقيمة عالمية وفقا للنمط الغربي في أرقى تطبيقاته، وباستخدام خاطىء لمفاهم أخرى مثل حقوق الإنسان وحرية التعبير والحق في التجمع السلمي....الخ.
كما جرى استدعاء مبدأ تقرير المصير على نحو اعتباطي ينم عن انحطاط الثقافة السياسية والقانونية في هذه البلاد.

(يمكن في هذا الخصوص تقييم حجم الاستفادة التي حظيت بها جماعة الكهنوت الحوثية من نهج النخب المعارضة لنظام صالح أثناء تمردات الحوثيين المسلحة ضد الدولة).

لقد تم بكل جهالة تسويغ كل الظواهر والخروقات والسلوكيات التخريببة المحلية من وجهة نظر أخلاقية عولمية، وليس من وجهة نظر أولويات الحفاظ على الدولة وتدعيم ركائزها، ولا وفقاً لجملة المبادئ والمثل المنصوص عليها في الدستور والقوانين اليمنية والتي، مع ذلك، كان من الممكن تطويرها ومواءمتها تدريجياً مع معايير وقيم العالم المتحضر.