فكري قاسم
رُكّاب حافلة 2011 المنضبطين والمُش منضبطين
أسوأ وأتفه وأغرب ناس في حياة يمنيي العصر الحديث هم، بلا استثناء، رُكاب حافلة 2011 الذين تسلقوا الثورة الشبابية وقادوها منفردين إلى طريق آخر ومختلف عما كان يحلم به الشبان، وشاهد الناس معهم عجب العجاب وسفاهة السفهان ولؤم اللؤام.
وهؤلاء الركاب عموماً هم نوعان: النوع الأول، "مش منضبطين"، وهم أولئك الذين كانوا من قبل مع النظام، ثم لما ركبوا حافلة 2011 تنمروا وجعلوا كل شيء في الطريق يسير على هواهم وفي صالحهم، وظهروا في الحياة كجماعة سارقة لا هدف لها غير السيطرة والاستحواذ على كل شيء كان يمتلكه النظام السابق، ولم تتقدم الحياة معهم، ولم تسلم الوظيفة العامة، ولم يحصل الشبان منهم على شيء غير النكد وتكسير الأحلام.
والنوع الثاني من الركاب، هم المنضبطون الذين كانوا من قبل ضد النظام ويعارضونه ولما أصبحوا من ضمن ركاب حافلة 2011 تغيروا من أول مشوار في الطريق، وظهر الوجه المخبأ والقبيح، وبانت أكاذيبهم وأصبحوا في الزفة مجرد ركاب لهم مطامع ومصالح، ولم يعد هناك في أحاديثهم اليومية أي تذمر، ولا لهم علاقة بما يدور، وكل الذي يفعلونه أنهم صاروا ينظرون إلى الحياة بشكل مختلف، ضاربين بكل تلك الخبابير السابقة، التي كانوا يضجونا بها ليل نهار، عرض الجدار، وشاهدنا منهم ما هو ألعن وأوسخ مما كان موجوداً في أيام الرئيس السابق الراحل علي عبدالله صالح.
ذلك الراكب المنضبط الذي كان من قبل الثورة يعارض ويستشهد دائماً بما يقوله المعارضون، لمّا فتح الله عليه وأصبح مسؤولاً في دولة الحافلة، لم يعد هو ذاك الذي كنت تعرفه من قبل، لا في كلامه ولا في سلوكه ولا في تعامله ولا في نظرته للحياة، وأصبح يعيش إلى جوارك بلا هموم وبلا أي تطلعات للتغيير؛ لأن وضعه أصلاً قد تغير وافتهن وارتاح "ما يعمل بالتغيير".
وذاك الحقوقي والنقابي والبرلماني الذي كان يحدثك من قبل عن الإدارة الحديثة، وعن النجاح، وعن الإبداع، وعن التمدن وعن التحضر، وعن الطيسي فيسي.. عندما فتح الله عليه وأصبح الآن مسؤولاً كبيراً في دولة الحافلة، لم يعد مهموماً لا بالنجاح ولا بالتمدن ولا بالتحضر، ووقته كله مشغول يجمع زلط، ويشيد بكل نافذ وكل سارق، وصبح ليل وهو منضبط يدعو لمواصلة التحرير حتى آخر ريال في الخزينة السعودية.
وذاك الذي كان يسأل عنك باستمرار ويهتم بمواضيعك التي تكتبها ضد النظام ويشجعها ويحتفي بها، وطول الوقت يقلك أنت موهوب، أنت رائع، أنت وأنت وأنت، لمّا فتح الله عليه وأصبح مسؤولاً في الدولة، نساك وأهملك وصار يتهرب منك، ويقرأ ما تكتبه من دون أي تشجيع، وإذا لقاك مصادفة في أي مكان فإنه لايعاملك بنفس الود وبنفس الحفاوة القديمة، وإذا جيت تكلمه عن الحقوق وعن المعاناة يقولك وكأنك غريب "هكذا هي الحروب"!
وكله كوم وصاحبي الذي تشيعت له من كل قلبي، وآمنت بأفكاره الجميلة، ورؤيته المنفتحة على الحياة، وكنت أعتبره الأخ والصديق والسند والمعلم والملهم الأكبر كوم لحاله. ولمّا وفقه الله وصار في زحام مناصب حافلة 2011 مسؤولاً كبيراً في الدولة، تغير وتحوّل، وأصبح في موقعه المهم إنساناً آخرَ غير ذلك الذي كان يهتم ويسأل ويشجع ويشيد بكل ما أقوم به، وبكل ما كانت تؤديه صحيفة حديث المدينة من دور ورسالة في سبيل الدولة اليمنية الحديثة. وفي معرض حديثه عني بين عدد من الأصحاب الصحفيين قبل أيام قال لهم "فكري موهوب، لكن مش منضبط!".
ومن يومها وأنا مهموم بصراحة، ومش داري كيف أكون منظبطاً؟
ولا أعرف ما هو الانضباط الذي يتحدث عنه صاحبي الكبير الذي غلق الفورة وزادني من التعب والخذلان حبتين.
يعني أنام بدري وأصحو الصباح بدري مثلاً؟
أو عندما يكون هناك وظيفة عامة أنا جدير بها كمواطن يمني لديه المهارة والقدرة أسوي حالي منضبط وأجلس في البيت سكته أتابع أخبار التباب المحررة بانضباط وأشجع ركاب الحافلة بانضباط، وأطعم أسرتي انضباط مع الكدم والسحاوق، وأقول لموهبتي "اصه، سكته، انضبطي يابنت الكلب" لما ينتهي سواق الحافلة من إيصال الركاب الأكثر انظباطاً!
الله يرحم علي عبدالله صالح، الرجل الكبير الذي لم أكن في أيامه منضبطاً، ولكنني كنت أنجح، وكان عندي بيت أعيش فيه بأمان، وكان عندي وظيفة وصحيفة ناجحة وسيارة وعلاقات كبيرة وأخرج وأدخل كل يوم وأتمشى بين الناس وأنا آمن بأمان الله، وكان عندي أحلام وطموح وأمل كبير في أن أصبح موظفاً في أي موقع من مواقع الدولة، على الرغم من أني كنت معارضاً للنظام بشدة، في وقت كان كل ركاب 2011 ساكتين ومدهننين ومنضبطين ولا أحد منهم يجرؤ أن يقول بُم.
ولكنني اليوم وأنا منضبط، بشدة، في صف استعادة مؤسسات الدولة، أعيش أيامي كلها نازحاً بلا أمل وبلا بيت وبلاسيارة وبلا حارة وبلا مدينة وبلا وظيفة وبلا صحيفة وبلا أمان وبلا أصحاب كبار يعلمونني الانضباط أو يرشدونني، من باب الصداقة على الأقل، إلى طريق الانضباط، على اعتبار أن حافلة2011 ليست نقل عام كما يفترض بها أن تكون، بل هي مجرد حافلة خصوصية لأشخاص معينين، ولا يمكن لها، بأي حال من الأحوال، أن تنقل أحداً إلى الضفة الأخرى غير المنضبطين وبس!