محمد عزان

محمد عزان

تابعنى على

دردشة في الولاية (4/ب)

Monday 10 September 2018 الساعة 09:32 pm

كان لقريش مكانة اجتماعية وتأثير ملموس على محيطهم العربي، باعتبارهم أكبر تجمع حَضَري في مكة؛ المكان الذي يرتبط به العرب ارتباطاً تاريخياً وعاطفياً، حتى إن مكة عُرفت -آنذك- بأم القرى، وكان سائر العرب يقصدونها من كل مكان ويعتبرونها ملاذاً آمناً لجميع الناس ويصفونها بالبلد الحرام.

وفي نفس السياق التاريخي، روي عن النبي صلوات الله عليه أنه تحدث عن تأثر قريش فيمن حولهم سلباً وإيجاباً، فقال: «الناس تبع لقريش في الخير والشر»، ولكن العصبة العشائرية حولت ما ورد عن النبي في وصف قريش إلى نص تشريعي يطالب بفرض ولاية قريش على الناس، واستنتجوا من ذلك نظرية سياسية عصبوية ألصقوها بالدين وجعلوها من أساسيات نظام الحكم ومعالم الخلافة الإسلامية، وفي سبيل ذلك طوّروا كلام النبي وألصقوا به الملصقات وأدخلوا عليه التعديلات حتى صاروا يروون عن النبي أنه قال: «الأئمة من قريش لا ينازعهم أحد إلا كبه الله على وجهه في النار»!
هذه خلاصة دعوى قرشية الخلافة، ومسار تحوُّلها من وتوصيف لواقع اجتماعي إلى نص لتشريعي ديني! وسنبرهن على هذه الخلاصة بالآتي:

❶ كان أقدم تدوين لحديث القرشية في (قبل 154هـ ضمن كتاب معمر بن راشد الأزدي) وجاء بلفظ: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم»، وهذه الرواية بهذا اللفظ معتمدة عند قدماء المحدثين، كعبد الرزاق الصنعاني وأحمد بن حنبل وابن أبي شيبة والطيالسي الدارمي والبخاري ومسلم وغيرهم. وهي -كما ترى- توصيف لوضع اجتماعي معين، يُقيده الزمان والمكان والحال وصيغة اللفظ، وهي لا تفيد الأمر بجعل قريش متبوعين، ولا تشريع التعامل معهم على ذلك الأساس. غير أن الصراع السياسي طور الرواية وقدمها بألفاظ وسياقات تحقق مراد المذاهب السياسية.

❷ بعد أكثر من مئة سنة من التدوين الأول للحديث السابق، تم تطويره فصار يُدون بلفظ: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن» أو «في هذا الأمر»، أو «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان». هكذا؛ دُون ذكر لماهيّة «الشأن» أو «الأمر» المُشار إليه.. وظهرت رواية أخرى بلفظ: «إن الأمراء من قريش» أو «الأئمة من قريش». وبعضهم قدّمها بلفظ: «قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة» وزاد آخرون: «لا ينازعهم أحد إلا كبه الله على وجهه في النار». وهذه كلها تصرفات تَحمِل بصمة التنافس السياسي، وتكاد تنطق بما وراءها من عبث مُتَعمّد، سواء في لفظ النص أو سياقه!

❸ حديث «الأئمة من قريش» بهذا اللفظ لم يَرِد - مرفوعاً - إلى النبي في شيء من المراجع الحديثية في القرون الثلاثة الأولى، حتى إن النسائي استبعده من السنن الصغرى التي خصصها للأحاديث الصحيحة لديه، وذكر ابن حجر (في الفتح) أن البخاري تجنب هذه الرواية لمّا لم يكن منها شيء على شرطه في الصحيح. وقال إمام الحرمين الجويني (في غياث الأمم): «الذي يُوضح الحق في ذلك: أنَّا لا نجد في أنفسنا ثَلَج الصدور واليقين المثبوت بصَدَرِ هذا من فلق فيِّ رسول الله، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد، فإذاً لا يقتضي هذا الحديث العلم باشتراط النسب في الإمامة».

❹ لم يتمكن المتحمسون لنظرية القرشية (كابن حزم وابن حمزة وابن تيمية والشوكاني) من تقديم ما يدل على تصحيح رواية القرشية بهذا اللفظ، واكتفوا بذكرها مع روايات أخرى لا علاقة لها بموضوع خلافة قريش، حتى إن ابن حجر العسقلاني تحمس للحديث وجمع فيه رسالة سماها: «طيب العيش بتصحيح حديث الأئمة من قريش»، ومع ذلك لم يجزم بصحته؛ بل لخص حكمه (في الأمالي) فقال: «أما حديث: الأئمة من قريش. فوقع لنا من حديث عليّ بلفظه، وكذا من حديث أنس، ووقع لنا معناه عن عدد كثير من الصحابة». فقال: وقع لنا «معناه» ولم يقل: وقع لنا لفظه.

هذا وغيره مما بسطت القول فيه ضمن كتاب (قرشية الخلافة تشريع ديني أم رؤية سياسية؟) يؤكد أن هذه من الأحاديث الدينية التي وظّفتها السياسة في تسويق نظرية معيّنة في الولاية والخلافة والإمامة، ويكشف أن تلك المحاولات مجرد تلفيق لا يمكن البناء عليها في مسألة نظام الحكم، وبالتالي يبقى أمر نظام الحكم بيد الشعوب تتشاور فيه وتُنتجه بما يحقق لها الاستقرار والسعادة. على أساس أن أمر الناس شورى بينهم.