عبدالفتاح الصناعي
عن حياة البرزخ اليوم وعذابها الأليم
كلمونا كثيرا عن البرزخ الذي لم نره بعد، وتجاهلوا بأن يكلمونا عن البرزخ الذي نراه ونعيش بؤسه وكل تفاصيله اليوم.
لن يختلف اثنان بأن هذا البرزخ الذي نعيشه، هو جحيم لايطاق من العذاب الأليم أما البرزخ الأخروي الذي هو الانتقالة بعد الموت الجسدي والروح إلى حياة أخرى.. فهنالك الاختلاف الفقهي عن العذاب فيه.
إذا كان البرزخ الأخروي يبدأ بالموت وينتهي بالنشور ويعيش الانسان عذابه أو نعيمه جزاء لما كسب واكتسب بحياته من الاعمال الصالحة أو السيئة، فإنه لا أحد يسمع لهذا أثرا.. فالمقابر هادئة ويسكن عليها وبالقرب منها وتتم زيارتها دون أن يحس أحد منها أي شيء وبكل ما تحوي من أموات متعددي الاصناف والاعمال ولربما الديانات والاعتقادات، فإن المقابر جميعها تنعم بكل السلام والهدوء حسب ما تدرك حواسنا وعلمنا ولا نعلم ماذا يكون هنالك من أمر لا ندركه بقدراتنا المحدودة.
وحسب ما جاء به القرآن الكريم فهو بأكثر آياته يصف هذه الحياة أو المرحلة "البرزخ" بأنها تغييب وغياب كامل عن الوعي حتى يأتي البعث والنشور (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) (يوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار).
إن هذا البرزخ الذي نعيشه اليوم مختلف كثيرا عن البرزخ الأخروي.. برزخنا هذا يتصارع فيه الأموات والأحياء معا، وبالتالي تكون حياة الانسان جحيما وعذابا وتكون النهاية هي ابتعاث هذا الانسان وهذه الأمة من غفلتها وجهلها وتعصبها وتطرفها وانخداعها وأفكارها المتخلفة الى الرقي والعلم والتسامح والانفتاح ونبذ افكار الصراع بدون وجه حق ونبذ الافكار الميتة التي تسبح في الأوهام والخيالات المريضة خارج محيط الحياة.
إن هذا البرزخ هو فاصل بين وعي وجهل.. بين مرحلة وأخرى.. بين الظلام والتنوير.
لسنا بدعا من الأمم، فقد مرت أمم قبلنا بهذا البرزخ بكل ما فيه من العذاب والجحيم، ثم انتقلت بعده إلى ما هي عليه اليوم من السعادة والنعيم.
هكذا تعيش الأمم والشعوب برزخها على حدة في الوقت المحدد لكلا منهما حسب اعتمالاتها وكينونتها بطرق ومبادئ عامة متشابهة ومتقاربة وبتفاصيل مختلفة ومتباينة فقد سبقتنا أمم ونحن نلحق بها، فهذا مصيرنا شئنا أم أبينا، وعينا أم لم نعِ.
إن الصراع بين الأحياء والأموات في هذا البرزخ الذي صنعه جهل الانسان وتحريفه للدين والعقل والقيم والاخلاق، وإلى هذا يستند الأموات وأشباههم واتباعهم في صراعهم ومعاركهم معتدين بنبش الصراعات الميتة.. كما كانت انحرافات الأمم قبلنا من ادعاء القداسة والتفضيل والحق الالهي والعدوانية باسم الدين، وخيانة جوهر الدين وقيم الاخلاق وضمير الأمة ومختلف الافكار الشيطانية والمنحرفة التي تناقض قيم الدين ونظرات العقل وسمو الاخلاق.
كما يستند الأحياء في صراعهم مع الاموات الذين يحملون الافكار الميتة محاولين جر الشعوب الى تعقيدات ومتاهات لن تنتهي، الى كل الأفكار العظيمة التي تدب فيها الحياة بكل قوتها وعنفوانها، فتبدد ظلمة الواقع وتعقيداته ومتاهاته المضللة وتناقضاته المحيرة.. فتكشف عن الواقع زيفه وتحل الغازه المعقدة، فيشرق المستقبل واضحا جليا خاليا من الغموض والأمراض بالتخلص من كل الاخطاء الجوهرية.. في فكر الأمة قبل واقعها بحلول حقيقية وجذرية.. فيتم الانتصار على الاخطاء بتجاوز التخلف والصراعات التأريخية المقيتة والطائفية السيئة ومشاعر العدوانية والتبعية وخيانة القيم والضمير والتخلي عن المسؤلوية، الى آفاق حقيقية من الالتزام القيمي والاخلاقي والرقي العقلي.
أيضا في هذا البرزخ يتصارع فيه أموات مع أموات آخرين مثلهم مشاريع القتل والتدمير وفاء وتوهما وتمسكا بأحداث وافكار ميتة أكل عليها الدهر وشرب، وهذا هو سبب طول أمد هذا البرزخ وما ينتج عنه من العذاب الأليم المادي والحسي للفرد والمجموع.. هؤلاء هم من يواجهون التخلف والهمجية بهمجية وتخلف، والطائفية بطائفية مقابلة، والعجز والفشل والعمالة بعجز وفشل وعمالة بالمثل أو أكثر.
وهنا فإن هذا الصراع بين الأموات وأشباههم بهذا البرزخ لن ينتهي بالسلام بينهم، وإنما ينتهي بالقيامة عليهم وابتعاث الأمة من جديد لتصحيح أفكارها ومراجعة قيمها واخلاقها وفكرها، بدفن ووأد هذه الصراعات العبثية والجدل العقيم، وتجاوز الماضي وصراعته وأمراضه، والانطلاق نحو المستقبل وافكاره التي تبتعث منها الحياة والأمل والتقدم والرقي.