منذ الصباح الباكر، قبل أن تطارد خيوط الفجر بقايا تلك العتمة الهاربة، ينطلق سكان صنعاء السباق للصفوف الأولى جوار سور ما، أو في ساحة محددة، وقبل أن ترفع الشمس الغطاء الأول عن وجهها، حتى تغلق كافة الدروب والمنافذ التي تصل بين الناس ومبتغاهم الذي يتسابقون للحصول عليه في ظل حكم ساسة الأزمات.
كان المشهد مفزعاً، محيراً، ومبكياً، فالجمع بكامله لم يكن ملتحماً ذاك الالتحام الذي نعرفه في اللقاءات والاحتجاجات والمظاهرات، كان مجرد كتل من الناس بعيدة عن التنسيق والانسجام والتآلف، كل يصرخ في الآخر إن حاول أن يتعداه أو يسمح لأحد بأن يتجاوزه، الكل يتأفف والأرواح قد بلغت الحناجر، كل جماعة من الناس لا تكترث بالأخرى، بقدر ما بدت منطوية على ذاتها، تتطلع نحو ذلك الصف الذي يزداد طولاً، يعدون كل جديد ينضم إلى صفهم بشيء من الترقب والحيرة، يحاولون ثني كل منضم جديد، يقولون "لن يصل الدور إليك" العدد محدود وسيتم استقطاع عدد لأولئك المنتمين زوراً لله.
لا تتعجب أيها القارئ لما هم يصطفون، ويتسابقون إلى الساحات في حارات مختلفة كل صباح، من المؤكد ليس لغرض الرياضة، أو رغبة في المشي تحت أشعة الشمس، إنهم فقط يبحثون عن "إسطوانة غاز"، فنحن في زمن الحكم بالأزمات، وزمن مساواة العذاب بين أفراد الأسرة الواحدة في كل شيء، لذا لا تستغرب إن عرفت أن كل جماعة من هذه الجماعات هي أسرة كاملة مكملة بأركانها الثلاثة: الزوج، الزوجة، الأولاد، ما عدا قلة قليلة من الرجال، الذي اصطحبوا معهم إلى هذه الساحة أو تلك بجوار ذلك السور أكثر من زوجة بغية الحصول على الغاز وكل يكون له ذابوره وعليه أن ينضم لهذا العمل المضني إن أراد ما يطبخ به غداءه، أو يشغل به سيارته، أو من أراد الحصول على أجر زهيد مقابل الحصول على أسطوانة غاز لمن لا يقوى على الطوابير.
ومع مرور الوقت و هم لا يزالون منتظرين لقاطرة الغاز أن تأتي إليهم، يجد الأولاد متنفساً جديداً للتعارف واللعب والعبث، كذلك النسوة يقتربن من بعضهن، تتحدث كل واحدة للأخرى عن صروف الأيام التي دفعت بهن إلى ما يشبه الاستجداء في هذه الساحة للحصول على حق من حقوق الحياة الإنسانية وواجب إلزامي على كل سلطة أن توفره كونه أقل واجباتها، تتحدث الأولى بأن مأرب تبيعه ب 1250ريالاً، إلا أن سلطة الكهنوت تبيعه بالضعف مرة ونصف عن سعره، ترفع الأخرى يدها داعية الله ينتقمك يا عبدالملك انت ومن معك، عيالنا وقتلتموهم، ورواتب وقطعتوها، وبلد ودمرتوه، الله يحرمك ريح الجنة مثلما أحرمتنا كرامتنا وإحنا مستورات بدل البهذله هذه"، في هذه الأثناء تأتي قاطرة الغاز، يستقبلها الناس بالتصفيق والفرح، وما إن يبدأ التوزيع حتى يأتي طقم أبو ملعون يأخد عشر إسطوانات دون مراعاة لمن يقف في الطابور منذ الصباح الباكر، ويستمر التوزيع مرة أخرى ثم يتوقف كي يتمكن المشرف أبو رجيم من أخذ أسطوانات عشر أخرى.
وكالعادة تعود تلك العجوز وذاك الشاب والطفل الصغير، يدحرجون إسطواناتهم الفارغة محملين بالأسى والخذلان، فقد أخذ حصتهم أبو ملعون وأبو رجيم، وبينما هم يتفقون على المجيئ غدا منذ الفجر ليكونوا أول المصطفين في طابور الانتظار، حتى هالهم منظر أبو ملعون وهو يقبض سعر الاسطوانات التي أخذها مدعياً أنها لمخبز خيري، ها هو يبيعها لمطعم ويقسم أنه ليس جشعاً فهو يريد فقط 5000 ريال مقابل كل إسطوانة أخذها ب 3000 ريال، إنه الإيثار في أبهى صوره، تتمتم العجوز لمن حولها، ضيعونا طالبين الله..