ربما الشيء الوحيد الذي لم يتم استيعابه.. أن يفقد الإنسان السيطرة على أعصابه، ويفكر في التخلص من حياته من أجل الراحة، وفي بعض الأحيان عندما يصاب بخيبة أمل تتسرب إليه الأفكار التي تحوله لمعتوه، هذا ما حدث للمواطن عبدالله علي (45 عاماً)، والموظف في المؤسسة الوطنية للكهرباء، عندما أعلن عجزه عن توفير لقمة عيش أسرته، وقرر أن يحصل على الغذاء مقابل السمعة.
فالجوع لا يعترف بسمعة الفرد أو لقبه أو منطقته وقبيلته، وكما تقول الأمثلة الشعبية المتداولة، إن الجوع كافر، ويقول الإمام علي بن أبي طالب "كرم الله وجهه" لو أن الفقر رجلاً لقتلته، وما وصلت له حالة المواطن اليمني جراء حكم وسيطرة الحوثيين في الشمال وفشل هادي في الجنوب، قرر "عبدالله" أن يحصل على الغذاء مقابل السمعة، فقد دخل سوبر ماركت (...) فالمواد الغذائية باتت في ارتفاع مستمر للأسعار، والرواتب منهوبة، والفقر تشتد وطأته، لم يبال لكاميرات المراقبة الموضوعة على أركان المحل، فقد ملأ (سلته) وبدأ يفكر في طريقة الهروب، ولكن عند المدخل تم إيقافه بتهمة سرقته مواد غذائية بسيطة جداً تتمثل في (بسكويت ماري وأبو ولد ـ مكرونة ـ وصلصة ـ علبتين فول - وجبنة وزيت) دون أن يدفع الحساب.
وعند محاولة الاعتداء عليه من جانب أصحاب المحل جثى على ركبتيه وبدأ في البكاء بأعلى صوته وقال (لنا من قبل أمس العشي أنا وعيالي ستة أنفار ما ذقنا لقمة، ما معي ريال وقد بعت حتى الفراشات، والله ما أنا سارق يا خبرة ولكن الجوع والحاجة).
الحالة التي وصل إليها (عبدالله) بسبب الحاجة يعاني منها الكثيرون، وكثيراً ما صرنا نسمع أخباراً عن انتحار أو أب يرمي بأبنائه، وآخر يسممهم، وثالث يفقد عقله ويصبح مجنوناً مشرداً نتيجة لعدم تمكنه من توفير لقمة العيش لأطفاله، ولهول ارتفاع الأسعار الذي طال كل شيء، وفي ظل حكومتين تتنازعان السلطة وهما أفسد من أن يديرا أنفسهما، فسلطة صنعاء لا يعنيها ما وصل له المواطن اليمني، فاليمني لا اعتبار له في حسابات السلالة الحاكمة، ولا وزن له في ميزان الحوثي المنقم من كل شيء، ويرى أن ما يفعله ويفتعله من أزمات واجب مقدس وانتقام مشروع من الشعب الذي ثار على حكمهم وما زال يرفض عنصريتهم ومذهبيتهم النتنه، وكذلك تفعل حكومة "هادي" التي جعلت من رواتب الناس مصدراً للمقايضة والانتقام من الشعب شمالاً، متصورة أن الشعب يقف مع الحوثي، وإن جوعوه سيعلن ولاءه لهم، والحقيقة أن الشعب لا يقف مع هذا أو ذاك، فهو يعرف عنصرية واستبداد الحوثي، وعجز ووهن هادي وضعفه وانتقاميته أيضاً، والشعب يدرك أنه لو كان هادي به خيراً لما أفسح المجال من البداية للمنتقمين من جماعة الإخوان أو الحوثي أو غيرهم.
الازدياد المستمر للأسعار كافة، وضع المواطنين بين كفتي (الشيطان) وهي (الديون ـ والهروب) من المسؤوليات، خصوصاً في ظل سياسة التجويع الممنهج المتبعة ضد هذا الشعب، فارتفاع تكاليف المعيشة أصابهم بنوع من الخوف والتوجس وعدم الاستقرار، كما ساهم في ازدياد حالات (النسيان) التي تؤدي إلى مرض الزهايمر مع مرور الوقت، إلى جانب (السرحان) والتفكير المستمر والحسابات السرية غير المعلنة التي يحدث بها الإنسان نفسه سواء في الشارع أو عند جلوسه وسط الأسرة أو غيرهم، كيف لا وهو يراقب الجنون المستمر في ارتفاع الأسعار والمترافق مع الهبوط المتسارع في سعر صرف العملة الوطنية.
فالريال يحتضر أمام العملات الأجنبية، ولا سبيل لتلافي سقوطه المستمر، والفساد مستشرٍ، وبصورة أكثر فظاعة عما كان عليه من قبل، فحكام صنعاء يشترون الأراضي ويبنون العمائر ويقيمون استثماراتهم، فلا يخلو حي من أحياء صنعاء من مشرف حوثي قد اشترى فيه منزلا أو اثنين، إضافة لمجموعة الفلل التي يتهافت عليها مشرفو الجماعة وكبار ناهبيها، وإن طالب الموظف البسيط على راتبه قيل عنه "مرجف" وأن البلد في عدوان وخزينة الدولة فارغة... كيف لها أن لا تفرغ وهذه الجماعة نهبت كل شيء، ونهبت كل الإيرادات ومازالت تثقل كاهل المواطن بنهب التجار الذين يعوضونها من خلال رفع الأسعار...
لا يعنيني أن أتحدث عن ما يتوجب على حكومة هادي فعله، فهي حكومة مهاجرة يسيطر عليها لون واحد هو "الإخوان" الذين جعلوا من الوظائف والمناصب حكراً لهم، فما بالك بالإيرادات والثروة، فهذا دأب الجماعات الدينية لا اعتبار للمواطن لديها، أنا يعنيني حكومة أمر واقع أنا أتواجد تحت سلطتها، وأتجرع المر بسبب سياساتها، أتحدث عن جماعة وقحة تعرف أنها مكروهة ومنبوذة من غالبية الشعب، وهي تدرك أنها تحكم لأجل السلالة ولا يواليها إلا أبناء السلالة وبعض المنتفعين، فبدلاً من أن تقوم بإيجاد حلول لمعاناة المواطن، ورواتب الموظفين، فاجأتنا بتسعيرة جديدة للمشتقات النفطية، وكأنها تقول للشعب:
كونوا كلكم كـ"عبدالله" وإن شئتم فالجنون والانتحار هو المبتغى الذي نريده لكم.