جلال محمد

جلال محمد

صفقات الدول يُباع فيها العملاء

Thursday 27 December 2018 الساعة 09:51 pm

صفقة واضحة الملامح لا مراء فيها قالها ترامب بحسب وكالة CNN لأردوغان "سوريا كلها له.. لقد انتهينا"، وهذا هو حال العرب من يد إلى يد ومن منتقم لآخر، وليس ذنب أولئك أنهم يدمرون أوطاننا ما دام قد وجدوا باعة سياسيين ونخاسين باسم الدين ينفذون كل ما من شأنه بيع البلدان وقتل الإنسان ودفن السيادة. ولنا أن نتأمل واقعنا اليمني أيضاً وكأني بلسان عبدالملك وجماعته العميلة يقول لإيران وللغرب ولكل شرور العالم "اليمن لكم، وما أنا إلا خادم لأجندتكم حتى تنتهي"!

في الأسبوع الماضي قرر الرئيس الأمريكي سحب قوات بلاده من الأراضي السورية، قرار فاجأ الجميع وفي مقدمتهم أعضاء إدارته حيث سارع اثنان منهم من ضمنهم وزير الدفاع إلى تقديم استقالتيهما.. وقبلها بأسبوع أعلنت جماعة الحوثي والشرعية بيع الحديدة وموانئها وتسليمها للأجنبي بدلاً عن تسليمها ليد يمنية، ولكن الغريب أن لا أحد من تابعي الحوثي وضباط الجيش المرتهنين لفكره أو أي مسؤول في صنعاء استنكر ما أقدمت عليه جماعة الشعار الكاذب والتشدق بالوطنية الزائفة، ولم يتجرأ أحد غير عبده بشر الذي انتقد ما أقدمت عليه جماعة أنصار إيران، انتقادا حذرا وخجولا، وهنا المفارقه العجيبة فوزير دفاع أمريكا قدم استقالته لأن رئيس بلاده يريد عودة جنود أمريكا، ولعل سبب الاستقالة أن ذلك الانسحاب يخيب آمال حلفاء أمريكا في المنطقة ويضر بسمعتها وهيبتها، وربما من دافع الخوف على السمعة والمكانة الكبرى للدولة بادر ماتيس بالاستقالة.. وعندنا باعت الجماعة وما زالت تبيع وتشتري في مأساة الشعب وسيادة الوطن، وبكل وقاحة تدعو الشعب للتحشيد والقتال في صفها "اللعنة".

وحتى لا ننسى التعليق على قرار ترمب بالانسحاب من سورية والذي هو محور المقال الأساس، علينا أن ندرد حقيقة أن القرار ليس بجديد بالنسبة للرئيس ترمب.. ذلك أنه سبق وأن أطلقه في سياق وعوده الانتخابية، كما لوّح به قبل أشهر ليتراجع في اللحظات الأخيرة.. ولئن حاول الرئيس الأمريكي تغليف قراره أو تعليله بالنزيف المالي الذي يسبّبه الانتشار العسكري الأمريكي في الأراضي السورية، وبامتناع الأطراف المستفيدة منه عن الدفع، فإن ذلك لا يكفي لتبرير قرار من هذا الحجم وفي هذه الظرفية الإقليمية والدولية الحرجة.. وخاصة فيما يتعلق بتطورات الأزمة السورية والرهانات الماثلة أمامها.

لماذا يقرّر الرئيس الأمريكي سحب قوات بلاده ليترك «حلفاءه» (قوات قسد خاصة) لمصيرهم في مواجهة آلة حربية تركية تضبط نفسها بالكاد وكانت تهدد بالعبور إليهم وطردهم أو دفنهم في كهوفهم، كما توعد بذلك أردوغان حتى مع تواجد القوات الأمريكية هناك؟ ولماذا ينسحب ترمب والحال أن قضية إدلب لم تحسم بعد ومعها قضية فلول «داعش» الإرهابي في محافظة دير الزور؟ ولماذا يخلي الساحة قبل تشكيل اللجنة الدستورية التي سيبني عليها مستقبل العملية السياسية في سوريا؟ وكيف يقبل بتواري قواته في الوقت الذي تميل فيه كفة النزاع بالكامل لصالح الدولة السورية ويستأثر مثلث روسيا وإيران وتركيا بتفاصيل الحل وفق مسار «استانا» ومن خلال مسار تنسيق ثلاثي ينجح رغم تضارب المصالح في رسم ملامح حل نهائي للأزمة السورية؟

وقبل كل هذا وبعده كيف يقدم ترمب على انسحاب أحادي مفاجئ بهذا الشكل الذي يجعله يبدو وكأنه هزيمة استراتيجية للمشروع الأمريكي برمته في سوريا مع ما يعنيه ذلك من «هدية مجانية» لعدوّيها اللدودين وهما النظامان السوري والإيراني من جهة ـ ومن طعنة في الظهر لحلفائه في الساحة السورية «قوات سوريا الديمقراطية» وفي الساحة الدولية وفي طليعتهم فرنسا وبريطانيا؟

لقد عوّدتنا الإدارات الأمريكية المتعاقبة على ما يمكن تسميته بسياسة «الغموض البناء» وهي السياسة التي تمكنها من إخفاء أوراقها وتسجيل النقاط في كل الحالات حتى تلك التي تبدو فيها المشاريع الأمريكية وكأنها تتقهقر.. ذلك أنه وبالنظر إلى القوة الجبّارة والتأثير الكبير للولايات المتحدة فإنه يصعب تخيل حصول انتكاسة اسراتيجية لأمريكا.. وهو ما يحيل ربما إلى «صفقة كبرى» مع تركيا.. صفقة تمكّن ترمب من استعادة أردوغان بعد أن انساق كثيرا في الاقتراب من بوتين.. وتمكّن أمريكا من ظروف تحقيق أهدافها بأياد تركية ووقف النزيف المادي الذي يسببه الانتشار العسكري في منطقة مازال الصراع فيها مستمرا إلى أمد غير قصير..

لقد بدأ ترمب يكشف في تدويناته حجم الرهان على تركيا أردوغان غير عابئ بحلفائه الأكراد.. وهو ما قد يشي بعناصر تمكن من رسم ملامح إجابة لكل الأسئلة الحارقة التي طرحتها خطوته المفاجئة بسحب قواته من سوريا مع كل ما يطرحه ذلك من قلق لحليفه الكيان الصهيوني.

ولعلنا نرى قريباً كيف تتخلى الدول والأنظمة الخارجية عن كل عملائها في داخل الأوطان وتتركها تواجه مصيرها المحتوم.. وما ذاك ببعيد عن اليمن، فقد نرى بيعاً إيرانياً رخيصاً للحوثي وجماعته ليواجهوا مصيرهم أمام شعب أرادوا إذلاله وتركيعه خدمة لمشاريع ومصالح إيرانية بحتة.