الحساسية التي أثارها صعود الحركة الحوثية لم تكن أبداً من طبيعة واحدة على امتداد اليمن. الصحيح أنها كانت، ولا تزال، عدة حساسيات تختلف في النوع أحياناً، وتختلف في الدرجة أحياناً أخرى. وتتحكم عوامل كثيرة في انقسام المشاعر والانفعالات المتولدة حيال جماعة الحوثي، انقسام مدمر لا يزال يلعب الدور الأساسي في إطالة أمد الحرب ودعم تماسك الحوثيين على رقعة من البلاد بعد أن كان له نفس الدور في توفير المناخ لصعودهم السريع والمفزع.
ويعود جزء لا بأس به من هذا الانقسام إلى تركيبة جماعة الحوثي ذاتها، وما ترمز إليه بالنسبة إلى التاريخ السياسي لليمن، على مستوى الأيديولوجية ومسرح الانطلاق.
وليس القصد بكلمة "حساسية" مجموع ردود الفعل والمواقف المعلن عنها فحسب، بل أنواع الاستجابات النفسية والذهنية إزاء جماعة الحوثي خلال مراحل الصراع التي كانت طرفاً فيه منذ نشأتها وصعودها وانتشارها العسكري.
ونستطيع، تبعاً لهذا الاستعمال التجريبي والمركب لكلمة حساسية، التي صيغت للاستخدام كمصطلح نقدي في مجال الأدب والشعر وعلم الجمال، وتستعار في بعض الأوقات في الدراسات الاجتماعية، إضافة إلى استعمالها التقليدي والشائع في الطب- نستطيع التمييز، من منظور الوطنية الكلاسيكية، بين نوعين رئيسيين من الحساسية:
1- حساسية "وطنية" بمعنى أنها استجابة نفسية وفكرية وأخلاقية قائمة على اعتبارات قانونية وسياسية وأمنية ومعايير عليا تسمو فوق الانتماءات والخلفيات الجزئية والخاصة. وهي حساسية وطنية لأن منشأها يتألف من عناصر وأسس جامعة بحيث يمكن، نظرياً على الأقل، أن يلتقي عندها كل اليمنيين على طول البلاد وعرضها.
2- حساسية "دون وطنية" وهي استجابة ذات منشأ هوياتي جزئي إما على أساس جغرافي أو ديني مذهبي أو منهما معاً.
والحديث عن هذه الحساسيات المختلفة لا ينبغي أن يحملنا على الاعتقاد بأنها جميعها حساسيات طبيعية، أكانت محببة إلى النفس أم مقيتة، أو الاعتقاد بأنها لا تخالطها أية شائبة أو أنها ليست مكتسبة ومصنوعة وموجهة، أو أنها ليست مظهرا كئيبا لاعتلال بنيوي يضرب عميقا في شخصيتنا الوطنية وتكويننا الحضاري.
إن كل أنواع الاستجابات التي نشير إليها، الحميد منها والبغيض، هي ثمرة تنشئة وتربية وآليات عمل طويل. فالحس الوطني لا يوجد بالبداهة ولا ينبت من تلقاء نفسه كما تنبت الخلايا الحية وتتكاثر، بل هو عاطفة مكتسبة نتاج تربية وتثقيف وتوجيه. والأمر ينطبق على الحس دون الوطني، الذي هو إعلان بالمرض وقد تحول عن طريق العدوى إلى وباء شديد الفتك.
وإنه لمن أيسر الأمور على المراقب أن يلحظ الاختلاف في مكونات الحساسية تجاه الحوثيين والذي يبدأ تدريجياً كلما اتجه المرء من صنعاء جنوبا.
إذا تعمقت ناحية الجنوب والشرق أكثر فأكثر، فإن المواقف تكف عن كونها ضد الحوثيين بصفتهم حركة لإعادة نظام الإمامة كمؤسسة حكم ذات ملمح كهنوتي رجعي نقيض للجمهورية، وقوامه التمييز على أساس النسب.
في اللحظة التي تجاوزت فيها القوات الحوثية الخط الوهمي الذي تنتهي عنده ما تسمى المنطقة الزيدية، فإنها انتقلت من كونها "قوات حوثية" لتغدو "قوات الزيود"، مثلما كان جيش "الإمام" في النطاق الزيدي يصبح جيش "الزيود" عندما كان يعبر إلى المناطق الشافعية وسط وجنوب اليمن وتهامة.
القصة القديمة نفسها: ابتداءً من نقيل سمارة جنوباً تظهر مواقف رفض وتطير مصنوعة من مادة مختلفة عن المادة التي تتكون منها مواقف الرفض والتطير داخل ما يشار إليه على أنه "النطاق الزيدي".
ولسنا في صدد إدانة أو تبرير هذه الحساسية التي على الأرجح تتغذى من تصور تاريخي مناطقي مفاده أن شمال الشمال الزيدي هو الذي كان يتخذ من الإمامة وسيلة لممارسة الغزو والهيمنة على اليمن غير الزيدي، في مقابل سرد تاريخي يفيد بعكس ذلك، وهو أن الإمامة هي من كانت تتخذ من مناطق الشمال وشمال الشمال قاعدة للانطلاق لتأسيس وتوسيع مجال حكمها بواسطة الجهاد المقدس والفتوحات.
التصور الأول يركز على الأصول المناطقية للإمامة التي ليست بحد ذاتها سيئة أو قبيحة -بالنسبة للمتأثرين بهذا التصور- إلا عندما تتجاوز حدود المنطقة الزيدية جنوبا وغربا نحو تهامة. والصراع مع أو ضد الإمامة هو شأن خاص ب"الزيود" داخل مجالهم الجغرافي، وأما من يقع خارج هذا المجال فإن صراعه لابد أن يكون مع أو ضد "الزيود"، لا فرق في ذلك بين الجمهوري أو الإمامي أو العسكري أو المشيخي!
التصور الثاني ينزع الصفة المناطقة عن الإمامة ويميل إلى تحييد الجغرافيا التي هي، بحسب هذا التصور، فاعل غير واعٍ لنفسه، وعليه فالنضال ضد الإمامة ليس بالضرورة نضالا للانفصال عن الجغرافيا التي تنطلق منها الإمامة بل هو جهد يرمي إلى تحرير الجغرافيا من تأثيراتها واستعمالاتها الجالبة للضرر، تحرير بواسطة الاتحاد بها والتفاعل معها في الإطار الوطني اليمني.
ما يتخلق عن التصور الأول هو حساسية مناطقية تكتسي بصبغة مذهبية تتلاءم مع ميول الحوثيين وأمانيهم. إذ إن هذه الحساسية قائمة على الافتراض الذي يسعى الحوثي إلى الإيحاء به، الافتراض بأن "الإمامة" أداة سياسية وعسكرية منوط بها التعبير عن مصالح سكان الزيدية الجغرافية ذات الطابع القبلي.
بسبب أنماط الوعي المناطقي، تأخر الإحساس الوطني بالخطر الحوثي، حيث ظلت العواطف خاملة في حيادها إلى أن بدأت قوات الحوثيين تصل تعز عقب سقوط العاصمة ومحافظات الشمال.
أثناء زحف الحوثي العسكري على عمران وصنعاء؛ كانت الغفلة، أو التغافل، يهيمنان على الموقف في العاصمة والمحافظات، هذا إن لم يكن التواطؤ والمناصرة غير المباشرة التي حظي بها الحوثي من نخب سياسية وناشطين مفعمين بالحس المناطقي الذي يتخذ أحيانا وصفا مذهبيا، وهو ما شجعه على البطش بخصومه في شمال الشمال الواحد تلو الآخر.
الحساسية الوطنية هي أنه إذا كان الحوثيون غزاة فهم غزاة في عمران مثلما في تعز وفي لحج، وإن كانوا انقلابيين فهم كذلك في صنعاء مثلما في الحديدة.. وهكذا.
الحساسية دون الوطنية هي أن تعتبر الحوثي في تعز غازيا بينما تراه في صنعاء انقلابيا وربما اعتبرته في عمران ثائرا على القوى التقليدية.
لقد كان الموقف في الجنوب، وبعض مناطق الشمال، موقفا مناطقيا وجهويا، إما من الزيود كمسمى جغرافي أو كانتماء مذهبي أو كناية عن القبائل كتشكيل اجتماعي ينزع إلى العنف والحرب، ولم يكن موقفا مبنيا على حساسية جمهورية وطنية ضد الإمامة أو على نفور تقدمي وحداثي من المحتوى الرجعي وأشكال التمييز التي تنطوي عليها الفكرة الحوثية.
إن مقدارا كبيرا من تلك المشاعر، والعواطف الملتهبة، لم يظهر -في البداية- ضد الحوثيين بسبب من كونهم حوثيين أو إماميين أو انقلابيين، فالحمية على الشرعية والنظام الجمهورية لم تكن في صميم الدوافع لقتال الحوثيين في جنوب اليمن وبعض مناطق الشمال. المؤكد أن كتلة حية من المشاعر كانت كامنة ومترسبة في النفوس، وظلت تختمر على مدى عقود وتتغذى من نوع معين من الذكريات والسرد التاريخي، ثم اتخذت من قدوم الحوثيين موضوعا لها.
بعبارة أخرى: كانت أشبه بعملية انفجار هائلة لطاقة حبيسة من الغضب والاستياء والغبن بعد أن تعرضت للاستثارة والتحريك والتوجيه المغرض بطرق متعددة، على مدى عقود، ضد دولة الجمهورية اليمنية التي جرى تصنيفها ولمزها -بالحق والباطل- على أنها جمهورية الزيود! بما ينطوي عليه هذا الوصف من دلالات وما يستدعيه من تخيلات ورموز وذكريات وأوهام. (والكتابة عن هذا الإشكال العميق والمضمر في الصراع اليمني لا يعني تبريره أو مباركته واستحسانه بأي حال، فهو من الزاوية الوطنية والأخلاقية يثير الاشمئزاز، ومن الناحية العملية لا يؤدي إلى نتائج مرغوبة على وجه الإطلاق).
صحيح أن الدوافع والمحركات، بالنسبة لعناصر الإخوان المسلمين والسلفيين، كانت في جانب كبير منها، طائفية بالمعنى الديني وليس الجغرافي، لكنها ما لبثت أن اندمجت مع نازع مناطقي ضد "مطلع" أو جهوي جنوبي، إلا أن الفضاء العام كان قد تهيأ مسبقاً على يد فاعلين ونخب من قوى سياسية مختلفة في أوقات متقدمة على الحرب بكثير.