كانت فترة حكم الرئيس صالح بكل المقاييس -على الرغم من عيوبها ونواقصها ومخالفاتها وأوجه ضعفها- هي أفضل التطبيقات السياسية العملية والحية للمبدأ الجمهوري الذي تمخض عن الثورتين المؤسستين لليمن الجمهوري شمالاً وجنوباً.
ولا تظهر أهمية وفرادة تجربة صالح في الحكم بصورة كاملة، إلا إذا حاولنا وضع ومعاينة هذه التجربة في المدى الطويل للتاريخ اليمني، وذلك على طريقة المؤرخ الفرنسي الشهير فرنان بروديل الذي يقترح تفكيك التاريخ إلى مستويات ثلاثة من خلال التمييز بين الزمن الفردي والزمن الاجتماعي والزمن الجغرافي، بين الأحداث والظروف والبنى: "على السطح من هذه المستويات يطالعنا تاريخ حدثي أو ميكرو -تاريخ داخل دائرة زمن قصير لا يتخطى أعمار الأفراد ووعيهم وأوهامهم، وهو بهذا المعنى زمن صحافي إخباري بامتياز. أما في الوسط فيطالعنا تاريخ ظروف ذات حدود زمنية أوسع ووتيرة أبطأ، أي تاريخ سردي يبحث عن دورات اقتصادية واجتماعية متفاوتة السرعة. وأخيرا، في الأسفل يطالعنا "تاريخ الحقبات الطويلة" أو التاريخ البنيوي".
جربوا النظر إلى فترة رئاسة صالح في نطاق الحقبات الطويلة أو المتوسطة لتاريخنا الوطني الخاص، لكي يتضح بشكل أدق ما الذي كانه الرجل.
غير أن طيفاً من "الحداثويين" اليمنيين وأنصاف المتعلمين، كانوا (أقل) تشدداً في الحكم على سلوكهم الخاص، سواء في مستواه الشخصي أو العمومي، وكانوا (أكثر) واقعية وتفهما ووعيا باختلاف وتغاير الظروف وإمكانات الزمن الحضاري وحقائق المكان. في الشأن الشخصي، يستسيغون أنماط سلوك، وممارسات، وميول وأهواء، وعلاقات، لو تم مقايستها جميعها، والحكم عليها كلها، بالاستناد إلى منظومة أخلاق العالم المتحضر، لأظهرت النتائج مقدر ما تتصف به هذه الأنماط والممارسات والميول والعادات من تخلف وفساد وبربرية وجور.
وكانوا، في نفس الوقت، متشددين في حكمهم وفي تقييمهم لسلوك الحاكم، ويستخدمون في ذلك مقاييس الأخلاق والقيم الغربية المعولمة، ويتجاهلون فوارق الزمن الحضاري وخصائص الواقع المحسوس وإمكاناته.
فهم يريدونه، فجأة، حاكما ديمقراطيا ومستقيما على أكبر وأعلى قياس، ولا تكون نجاحاته في نظرهم ذات قيمة ثمينة إلا إذا تمكنت من نقل البلاد بضربة واحدة إلى مصاف دولة اسكندنافية ترفل في النعيم وفخامة العيش وكمال السلوك.
ببساطة؛ كانوا، في أحكامهم على الرئيس صالح، طوباويين إلى درجة العته، وكانوا متعالمين (مدعين للعلم) وحمقى بشكل لا يرحم. بينما كانوا على درجة من التهاون الواقعي في تقييم أوضاعهم وأخلاقهم اليومية وضروب حياتهم.
وهناك طيف آخر من الناشطين المتجولين الذين اتخذوا من مفهوم أخلاقوي غربي لحقوق الإنسان والنزاهة، نقطة مرجعية عليا للحكم على الأحداث والسياسات والفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين، عوضا عن أية مرجعية وطنية موصولة مع العالم الحديث بدرجة من الحس السليم والوعي التاريخي والفضيلة السياسية المشتقة من الحياة المعاشة وليس من النظريات المجردة التي هي، أصلا، نفي للسياسية وما يسمى فن الحكم.
وقد طاب لهؤلاء الاستناد، سطحيا، إلى المرجعية الأخلاقوية العالمية الغربية لأنها تمنحهم الجسارة على توزيع الادانة السهلة أو الاستحسان السهل، على جميع الأطراف والفاعلين والهيئات المنخرطة في الصراع، وبدرجات متفاوتة وأحيانا بدرجة تكاد تكون متساوية. وهم إنما يفعلون ذلك من مرتبة فوقية عابرة للثقافات والحدود، أي أنها تقع خارج السياق الوطني وأعلى منه، وتنطوي على عداء خفي للسياسة.
هذا الموقع العالمي، الذي يرقبون منه الأمور، يساعدهم أحيانا على تمويه وحجب تحيزاتهم السياسية على المستوى الوطني، تلك التحيزات التي لو قدر لهم الإفصاح عنها لكانت خليطا فاسدا من أهواء هي أقرب إلى جماعات محلية ظلامية وعصبيات ومشاريع تحت وطنية منها إلى مشاريع الحداثة المفتوحة على آفاق العالم المتحضر.
فكانت هذه النتيجة الفادحة التي نشاهدها ونتنفس سمومها وأوساخها كل يوم. وحتى لو كان البعض منهم حسن النية لكنه يفتقر للبصيرة فلا فرق بينه وبين خبيث النية من حيث محصلة الفعل. فإن بوسع النيّة الصادقة "إن لم تكن نيّرة متبصّرة أن تُحدث من الاضرار مثلما يُحدث الخبث وسوء النيّة".