سعيد الرَكْنَه

سعيد الرَكْنَه

القيم الاجتماعية والعدوان الحوثي

Monday 21 January 2019 الساعة 11:00 am

بالنظر إلى وضع المجتمع اليمني بين الماضي والراهن، يتضح جلياً للمتابع تفشي، مؤخراً، الكثير من الظواهر السلبية الغريبة على مجتمعنا الذي عاش في أغلب فترات التاريخ مرتبطاً بالقيم والأعراف الأخلاقية محافظاً عليها في شقيه القبلي والمدني على حد سواء.

هذه الأعراف -في نظري- لا تقل أهمية وحضوراً في الوجدان اليمني عن القيم والمحرمات التي شرعها الدين الإسلامي والقانون الحديث كاحترام المرأة وحقوق الطفل وتنشئته التنشئة الحسنة.

غير أن الحقبة "الحوثية" الراهنة بما اكتنفته من مآسٍ، وما تبنته من خطاب في وسائل إعلامها ومن شعارات عدائية وما كرسته من ثقافة الموت والعنف من خلال إبراز الجثث وأشلاء الضحايا وشعارات الجهاد والموت، وتحويل ثقافة حمل السلاح بما في ذلك عند الأطفال إلى بطولة وشرف ومصدر فخر بصورة غير مسبوقة وإن كانت موجودة سابقاً بشكل طفيف لا يكاد يذكر ويقابل بالاستهجان من عامة الناس، لتصبح بذلك سلوكاً رسمياً تتبناه الدولة وتنفذه من خلال تجنيد الأطفال والزج بهم في الصفوف الأمامية للمعارك بصورة تخالف كل القوانين الإنسانية والأخلاقية ويجرمها العالم.

كل هذا مارسته العصابة الحوثية وشجعت عليه والأبشع قيامها باستغلاله ضد خصومها عبر تحويل ضحاياها من المجندين الأطفال إلى مدنيين استشهدوا في بيوتهم، وهو ما ينفيه الواقع ويعلم زيفه كل من يشاهد الأطقم الحوثية تجول داخل مناطق سيطرتها محملة بالأطفال، إضافة إلى انتشارهم في النقاط الأمنية وغيرها.

ليس هذا فحسب، بل تعمدت العصابة التعبئة الطائفية في المدارس ووسائل الإعلام والمطبوعات الرسمية التي تسيطر عليها والوسائل التابعة لها، فأصبح الأطفال في المنازل يشاهدون بدلاً من مسلسلات الأطفال المفيدة، نشرات الموت المشبعة بصور الأشلاء والدم وصور القتلى والانفجارات والتفجير في البيوت واستهداف الآليات في المعارك تحت صيحات الله أكبر وصرخة الموت التي يتلقنها الأطفال في كل حائط وشارع ولوحة إعلانية، فلم تسلم منها أيضاً الحدائق والمتنزهات العامة وأحواش المدارس وجدران البيوت والسيارات... وغيرها، فصار الأطفال يشاهدونها في كل وجهة تيمم إليها أعينهم.

وفي اليمن فقط بدلاً من إشباع الروح الوطنية لدى الأطفال من خلال الاستماع للأغاني الوطنية التي كانت مادة دسمة في الإعلام الرسمي قبل الانقلاب أو لتلك الداعية للحب والسلام والحياة ومشاهدة الأفلام والمسلسلات الهادفة، صارت تتلقفهم وتتخطف أرواحهم وأسماعهم زوامل وصيحات الموت ليصبح الموت هو الوطن والقتل هو الوطنية، والعنف هو الرجولة في نظر الصغار وهم يتشربون الزوامل المشحونة بالكراهية وأصوات الرصاص التي لا يخلو منها باص المدرسة أو الإذاعة والتلفزيون والمسجد وقاعات الأعراس... إلخ.

وبعد كل هذا السرد لنا أن نتخيل مدى تفاعل الأطفال مع مظاهر الموت التي تتربص ببراءتهم في كل مكان وتغرس في أذهانهم على المدى القريب وقد طفا على السطح بعض تجلياتها، فمن منا لم يسمع طفله يردد هذه الزوامل والشعارات ولم ير انعكاسها على سلوكهم ومن خلال رغبتهم وإصرارهم على امتلاك ومزاولة الألعاب العنيفة من الأسلحة وغيرها وتقليدهم وممارسة العنف ضد بعضهم البعض وضد آبائهم وأمهاتهم.

لقد وصل الحال إلى الإحساس بالتبلد والسادية فلم يعد الطفل يفزع أو يخاف من الإقدام على أي تصرف عنيف مهما كانت نتيجته فقد اعتاد على مشاهدة موائد العنف والدماء، بل صارت لديه نزعة لتجريبها ومشاهدتها على أرض الواقع ليكون هو البطل فيها لا المتفرج.

وفي الآونة الأخيرة سمعنا وقرأنا عن الكثير من القصص وما نتج عنها من إهدار الأرواح تسبب بها سوء استخدام الأطفال للسلاح مجاراة للثقافة السائدة ومحاولة لتقليد ما يشاهدونه.

وبعد أن تعرضنا لآثارها الواضحة ومدى التفاعل السريع معها، لنا أن نتخيل أو نتساءل ما سيكون عليه جيل بأكمله ترعرع في ظل ثقافة الموت والعنف وتأثيرها على المستقبل وكيف تسعى العصابة الحوثية الانقلابية إلى استغلال طفولتهم وتنشئتهم بكل وسائل الترغيب والترهيب والتلقين التي تفرضها داخل مناطق سيطرتها وكيف تستغل دماءهم للمزايدة بها وتحقيق المكاسب السياسية وإثارة وجدان المجتمع المحلي والدولي وتجييشه لمساندتها.

والمؤسف هو تغافل المجتمع المحلي وتساهله في حماية أطفاله والنأي بهم عن كل ما ينتزع براءتهم ويزرع السلوك والثقافة العدوانية المثخنة بالعنف والطائفية في جيناتهم
وربما لقلة وعيهم بخطورة ما يترتب على ذلك في مستقبل حياتهم وغياب الثقافة البديلة التي ينبغي أن تتبناها الدولة والحكومة الشرعية بإعلامها الرسمي من خلال برامج متخصصة تعالج الظاهرة وتكافح انتشارها، غير أن الإعلام الرسمي -وليس في هذا الأمر فحسب- بعيد كل البعد عن كل ما يخص المجتمع وما يعانيه من الانقلاب، بل يكاد أن يكون غير موجود.

وليس المجتمع المحلي وحده من يغض الطرف عن ما ترتكبه العصابة الحوثية الفاشية بحق الطفولة من جرائم يئن لها الحجر، بل أيضاً تجاهل المجتمع الدولي لكل التقارير المرفوعة إليه من المنظمات المعنية بحقوق الطفل عن ممارسات الانقلاب الشنيعة والمتعمدة في تدمير حياة الطفولة وكيف يزج بها في معاركه لخدمة مشروعه التدميري للأرض والإنسان اليمني.

ولعلنا نتذكر في هذا السياق ما كشفت عنه الناشطة منى الحمادي وهي العضو في الفريق أو اللجنة التي نزلت للإطلاع على ملابسات جريمة حافلة رازح التي راح ضحيتها عشرات الأطفال وكيف قيد الحوثيون تحركاتهم وحالوا بينهم وبين الالتقاء بأسر الضحايا ومنعهم من التصوير، وهو ما يكشف النوايا الخبيثة، ويؤكد استغلال الأطفال وتوظيفهم من قبل العصابة الكهنوتية والمزايدة بأرواحهم.

ونخلص إلى القول، إن طفولة جيل بأكمله لم تعد معرضة للخطر فقط، بل صارت تعيش فيه وبه وتتعايش معه وينمو في جيناتها، وهو ما يشكل خطراً على حياة ومستقبل جيل بأكمله ووطن هؤلاء الأطفال هم ثروته والمعول عليهم في صناعة غده المأمول.