منير اليمني
المشكلة الحوثية وأزمة التعريف: الحضرمي والغباري نموذجاً
حالياً، يمكن التمييز بين أربعة تيارات رئيسية يختلف واحدها عن الآخر من حيث الكيفية التي يتم بها تناول جماعة الحوثي، وتحديد ماهية المشكلة وما الذي ترمز إليه:
يوجد، أولاً، تيار من كتاب وناشطين يشتركون في كونهم يعلنون الإشمئزاز والإدانة لكل الأصوات المتصاعدة التي تتحدث عن الهاشمية، وخصوصا "الهاشمية السياسية"، بوصفها جذر المشكلة، وأن الحوثي ليس إلّا عَرَض من أعراضها وفرع من جذعها، لكن هؤلاء الكتاب والناشطين لا يجدون أي حرج في أن يتم الحديث عن الزيدية الجغرافية والاجتماعية كإطار للمشكلة ودائرة أوسع تشكّل المجال التاريخي الذي كان ينطلق منه نشاط ومشاريع الهاشمية السياسية.
إن مما يروق هذا التيار أكثر من أي شيء هو أن تجري المماهاة والمطابقة التحليلية بين الحوثية والزيدية كمنطقة وكمجتمع، وأن يتم النظر إليهما طائفيا بوصفهما شيئا واحدا.
في الغالب ينتمي أفراد هذا التيار إلى عائلات هاشمية، لكنهم لم يحسموا أمرهم بالالتحاق علنا بالحوثي لاعتبارات معينة تخص كل واحد منهم. وهم، دون وعي وربما عن وعي، إنما يفكرون من منطلق "هاشميتهم" المستثارة، والتي تملي عليهم أن ينحازوا لهذا التعريف الطائفي للمشكلة، الذي يرتكز على إظهار الحوثية كمرادف للزيدية بكافة تعبيراتها ودلالاتها السلبية. وأصل هذا الانحياز يكمن على الأرجح في الحاجة الأمنية والنفسية لدرع خارجي أوسع يمارس بعض التمويه والستر كما تختبىء النواة داخل الثمرة!.
(عبدالله الحضرمي نموذجاً لهذا التيار، فقد كتب قبل شهرين أن الحوثي لن يهزم لأنه يعبّر عن منطقة الزيود الملتفين حوله، حسب اعتقاده. وكرر التغريد مؤخرا قائلا: "..ومن دون النظر إلى الانقلاب الذي نفذته حركة أنصار الله ضد سلطة الرئيس عبد ربه منصور والمبادرة الخليجية باعتبارهما ثأراً جعرافياً لمركزية الهضبة ضداً على الربيع العربي لن نصل إلى الحل". طبعا هذه التأويل المغرض لأحداث سقوط صنعاء يشترك فيه الطائفيون على ضفتي الصراع، ويمكن تفنيده ببساطة؛ لأن الحركة الحوثية تأسست قبل الربيع العربي بنحو عشر سنوات حيث أعلنت التمرد المسلح ضد نظام صالح، ثم شاركت في الانتفاضة عام 2011، واستمرت في نشاطها وصولا إلى لحظة الهجوم على بيت صالح وقتله.
والحضرمي يرى أن الحديث عن الهاشميين بالسوء هو استفزاز وتحريض عنصري، وهذا صحيح، غير أنه يعجز تماما عن إدراك أن ما يقوم به الحوثي هو المصدر الأصلي للتحريض والكراهية اللتان أثارتا حفيظته، فالحوثي يجسّد التمييز خطابا وممارسة).
التيار الثاني هو عكس التيار الأول. يتبنى تعريفا عرقيا للمشكلة الحوثية ويرفض التعريف الطائفي/ المناطقي. أي أنه لا يقبل الحديث عن تعبير الظاهرة الحوثية عن زيدية سياسية واجتماعية محدَّدة جغرافياً ومتجانسة في الهدف والمصلحة والمذهب.
لكن هذا التيار يفضل الحديث عن الحوثي باعتباره امتدادا لخط الإمامة، ليس سوى مشروع عنصري تقف خلفه فئة الهاشمية السياسية حتى الهاشمية كعرقية، وأن هذه الفئة "الدخيلة على اليمن" هي جوهر المشكلة وأصل البلاء، بدلاً من إلقاء اللوم على الزيدية كجغرافيا ومجتمع وثقافة.
(سام الغباري نموذجا متطرفا لهذا التيار الذي تنتمي أكثرية أصواته إلى شمال الشمال ومناطق القبائل حيث ينحو التناقض مع الحوثي منحى كان يشار إليه أحيانا بالقحطانية في مقابل العدنانية؛ لأن من غير الممكن بالنسبة لسكان هذا الجزء من البلاد، لأسباب تاريخية، أن يتخذ تناقضهم مع الحوثي صورة مناطقية أو مذهبية بالمعنى المناطقي؛ فالصراع مع الحوثي أو الإمامة في هذه المناطق يتخذ أحد شكلين كبيرين تقليديين: شكل قديم يكون فيه الصراع قحطانياً عدنانياً، وشكل جديد يكون فيه الصراع وطنياً تحررياً جمهورياً ضد الإمامة والكهنوت.
لكن هذا لا يلغي وجود إمكانيات فرعية أخرى للتناقض والصراع، فهذه التي تسمى بالمنطقة الزيدية لم تعد من الناحية الدينية مغلقة على المذهب الزيدي، هذا إذا كانت مغلقة أصلا عبر التاريخ).
تيار ثالث يميل إلى الحديث عن الدائرتين معاً دون تمييز: فهو يرى المشكلة في الزيدية بتعبيراتها المختلفة الجغرافية والاجتماعية والدينية والعسكرية، وفي النواة من الزيدية تقع الهاشمية السياسية وفي مركز هذه النواة هناك الإمامة بمسمياتها وتطبيقاتها وإصداراتها المتنوعة.
(يضم هذا التيار مثقفين وناشطين علمانيين وغير علمانيين من مناطق الجنوب والوسط.
والرؤية المناطقية الصادرة عن هذه التيار هي في العمق تبدو أقرب إلى رضا الحوثيين منها إلى سخطهم. وهي رؤية طائفية مناطقية تتفق مع رؤية التيار الأول في هذا المقال، مع الفارق في الغرض والحسابات لكلا التيارين).
وهناك تيار رابع، وهو الأكثر تقدمية ومعقولية سياسية ووطنية؛ لأن أصحابه يرغبون في حصر المشكلة -التي يمثلها الحوثي- في "الإمامة" وفي اغتصابه للسلطة بالقوة بناء على أجندات مهيجة للطائفية والإنقسام؛ وعليه فإن مقاربة هذا التيار للمشكلة من شأنها أن تؤدي إلى حصر وتوحيد جهود النضال والنقاشات بحيث تكون موجّهة ضد الإمامة كمؤسسة دينية وتنظيم سياسي وعسكري مصنوع من طينة مذهبية ويحتوي على مفعول انقسامي خبيث، وضد الإمامة كفكرة تقوم على اللامساواة والاحتكار اللاهوتي للشرعية، عوضاً عن أن تكون هذه الجهود موجهة ضد الهاشميين لمجرد كونهم هاشميين، أو ضد الزيدية المكانية والاجتماعية جزافاً وبلا تفريق، ما لم يكونوا إماميين.
أي ضد الهاشمي فقط حين يكون إمامياً حركياً، حين ينشط سياسياً وعسكرياً لإسقاط النظام الجمهوري وتحقيق فكرة التفوق العرقي بموجب النسب، وضد الزيدي حين يصبح حوثياً إمامياً يحمل السلاح لفرض مشروع "الولاية" على اليمنيين وممارسة الجهاد المقدس ضد أبناء البلد الواحد.
التعريفات الطائفية أو العرقية تنزع المضمون السياسي عن الحرب، وهو ما يعني تأبيد الحرب من دون أي نهاية ممكنة.
وبمراجعة موجزة لوجهات النظر الأربع السابقة، سيتضح التالي:
1) التيار الأول، يرفض التعريف العرقي للمشكلة الحوثية ويفضل بدلا عنه التعريف الطائفي/ المناطقي.
2) التيار الثاني، يرفض التعريف الطائفي/ المناطقي، ويفضّل بدلاً عنه التعريف العرقي للمشكلة الحوثية كمظهر للهاشمية.
3) التيار الثالث، يدمج التعريفين معاً: العرقي والتعريف الطائفي بقسميه الديني والجغرافي.
4) التيار الرابع، يرفض التعريفين معاً، العرقي والطائفي/ المناطقي، ويفضّل تعريفاً سياسياً تحررياً يجعل من الحوثيين شبح للإمامة الكهنوتية وجماعة مسلحة غاصبة للسلطة بأجندات مهيّجة للطائفية والإنقسام.
التيار الرابع هو الأشد قرباً إلى خط الحركة الوطنية اليمنية وروح ثورة 26 سبتمبر الخالدة التي قامت بمساهمة من عدد كبير من فئة الهاشميين.
بالطبع من المتعذر حجب الواقع الذي يكشف صراحةً أن المنحدرين من عائلات هاشمية يشكلون العمود الصلب داخل جماعة الحوثي؛ هذا الأمر واضح وله خلفياته وروافده،غير أن السياسة السليمة تقتضي العمل على تحييد واستقطاب ودمج بقية الهاشميين كمواطنين يمنيين في العمل الوطني والنضال لاستعادة الجمهورية وبناء دولة العدالة والمساواة على أساس المواطنة.
وأما حقيقة انضواء أعداد كبيرة من مناطق القبائل وشمال الشمال في صفوف الحوثيين، فهذا ليس شيئا ملغزا لا سبيل إلى فهمه لقد نتج هذا الواقع، كما يعرف الجميع، عن تظافر عوامل عدة متعاقبة مع طبقات من أخطاء السياسة التي قادت في نهاية المطاف إلى حالة الانهيار ومضاعفاتها الماحقة.