حسين الوادعي

حسين الوادعي

تابعنى على

عن الناس والمدن في اليمن

Saturday 02 March 2019 الساعة 07:26 am

تبدو المدن اليمنية المعاصرة تجمعاً عشوائياً من المحلات التجارية والمطاعم والبيوت العشوائية والشوارع الصغيرة.
وعندما تتأمل علاقة اليمنيين بمدنهم تحس أنها علاقة "مؤقتة" وأنها لا تبنی بغرض الاستقرار، وإنما بهدف السكن المؤقت لتحقيق هدف قصير المدی ثم الرحيل!

إنها مدن البيع العاجل والمرور العاجل بلا أي بُعد جمالي أو مساحات للترفيه والاسترخاء.

العجلة والفوضی في مدننا تجعلني أحس أننا كنا نبنيها بثقافة "البدو الرحل" الذين يبنون خيامهم علی عجل في الصيف ليفككوها ويحملوها إلی مكان آخر في الشتاء!

مدننا مجرد شكل آخر من البداوة والترحال الحضري!
البيت اليمني، مثلاً، يُبنی كمساحة "مؤقتة" للأكل والنوم.
لا يوجد أي اعتبار لجماليات الاستقرار والحميمية، أو مراعاة لعلاقات البيت مع الشمس والضوء والظل والبرد والحر.

وإذا كان البيت بالنسبة لليمني ملكية خاصة فإنه أيضاً "ملكية مؤقتة"، يبنیه علی عجل وكأنه سيسكن فيه ليوم واحد ويمضي، كأن البيت ليس أكثر من مساحة للاستتار من الشمس والبرد وعيون الآخرين.

لو انتقلنا من البيت إلى الشارع سنجده بالنسبة لليمني المعاصر مجرد مساحة للمرور العابر السريع فيمتلئ بالحفر والعربيات والسيارات الواقفة في المنتصف!

بل إن علاقة اليمني بالشارع مؤقتة ومتقلبة ولحظية. 
فالشارع ليس ملكية عامة بالنسبة له بل ملكية خاصة (له وحده) وملكية مؤقتة (تنتهي بعد مروره من الشارع وتعود بعد عودته إليه المرة التالية)!

لهذا يحب اليمني أن يكون الشارع خالياً ووسيعاً عندما يقود سيارته بسرعة؛ لكنه إذا احتاج للتوقف عند محل ما فلا يری مانعا في إيقاف سيارته وسط الشارع وتعطيله.

يحب اليمني أن يكون الشارع نظيفا إذا مر به، لكنه يرمي الفضلات للشارع بمنتهی الخفة ما إن تنتهي علاقته "المؤقته" بالشارع ويعود الی البيت.

بل إن إحساس الملكية "الخاصة والمؤقتة" للشارع تتجلی في أبهی صورها في نصب خيام الأعراس في أوساط الشوارع الرئيسية والفرعية حتی ولو اعتدی ذلك علی حق الآخرين.

لكن من ينصب الخيمة اليوم سيستشيط غضبا إذا مر اليوم التالي ليجد الشارع مسدودا بخيمة عرس احد الجيران!
هذا التناقض هو سبب الظاهرة العمرانية الفريدة: البناء علی مساحة الشارع ومصادرتها!!

لقد نشأت المدن اليمنية القديمة حول "السوق".
في البداية كان يتكون السوق ثم تبنی حوله المدينة.. لكن اليمني القديم نجح في خلق علاقة الاستقرار والدوامية بينه وبين المدينة.

انتقل من حالة البداوة الی الاستقرار المدني وأبدع لنا المدن القديمة في صنعاء وصعدة وشبام وتريم.

بعد أن نظم السوق القديم انطلق ليؤسس فيها الحدائق ومساحات اللعب والنزهة وفصل بين "الخاص" و"العام" أو بين "السوق" و"المناطق السكنية".

لهذا تشكل المدن اليمنية المعاصرة انتكاسة في الوعي والتخطيط العمراني للإنسان اليمني. فهي ليست إلا سوقا مؤقتا للتبادل والرحيل.

ولأن السوق هو الفضاء الحيوي للرجل وليس للمرأة أو الطفل، تظل المدن اليمنية معادية للاطفال ومعادية للنساء.
البيت هو المساحة الوحيدة للمرأة.. فاذا خرجت من بيتها فهذا خطأ يجب أن يصحح بسرعة.. فيجب أن تخرج مغطاة وتمشي بسرعة كأنها تفر من خطئها المؤقت.

ويواجه الرجال هذا الخطأ المؤقت بأعلى درجة من العداء (العنف اللفظي والجسدي والتحرش).

أما الأطفال فإن المدن اليمنية مجرد تكتل من المخاطر التي تهددهم هنا وهناك.

اليمني الذي أبدع عبقرية المدن القديمة يستحق أفضل من تجمعات المحلات والبيوت العشوائية المعادية للإنسان.

* من صفحة الكاتب علی (الفيس بوك)