لا جديد لدى "الشرعية" سوى حكايات ألف ليلة وليلة... وكل شيء بحمد الله يدار بالثرثرة الإعلامية: الاقتصاد والسياسة والجبهات العسكرية، وكذلك الحال مع الأقاليم المعروضة على بلّور الترويج وكأنها "فردوس لاند" الذي صممه الخبراء والمفكرون بعد أن درسوا كل أنواع الفيدراليات على مدار الأزمنة منذ ضمور قبائل الأباتشي حتى هروب مشايخ حاشد من ديارهم.
ومع كل حلقة في مسلسل إخفاقات "الشرعية" وغيابها عن الواقع تظهر الحاجة لمزاولة تمارين تحمئة مستندة إلى خبرة تنظيم الإخوان في التهجين السياسي لإعادة تظهير حكاية الدولة الاتحادية، وتصديرها بواجهات جنوبية لا تجمعها سوى لحظة النشوة المهرجانية في صالة خمسة نجوم لتصبح الصورة اورجينال، لا تحتاج إلى فوتوشوب إضافي. مع أن الأمر برمته تنقصه مسطرة كونية لقياس الوحدات الفلكية بين الواقع والكلام الفاضي.
ألم تكن "الشرعية" قد صنعت مكونا جنوبيا على مقاسها في مؤتمر الحوار وأنجز كل ما أوكل إليه، فما الحاجة إلى مقبرة سياسية جديدة؟ أمن أجل (هيصة) إعلامية عابرة لسد الفراغ في الجبهات مثلاً؟ ولماذا يكررون صناعة تزوير الردائف ويوجهون خطاب الأقاليم نحو الجنوب ليل نهار؟ وكأنه هو من طردهم من صنعاء ومنعهم من تحقيق ذلك ولولاه لكانوا نصبوا خيامهم الاتحادية على جبال السروات المحيطة بمدن الهضبة وفي أحشاء الأودية!
إذا كانت الوحدة الاندماجية بشكلها البسيط قد أطلقتها دولتان في الشمال والجنوب، وخلفهما شعبان كانا مفعمين بالحماس والحلم والفورة القومية، ومع ذلك سقطت قبل استكمال البسملة وقراءة الفاتحة لأنها جينياً فاقدة لشروط البقاء (حتى بدون حرب 94). فلماذا "الخوض في تجربة الموت مرتين"؟
وهذه المرة "دولة اتحادية" معقدة ومركبة، تحتاج إلى اتّباع حمية سياسية أسطورية لتُخبئ خلفها مشاريع الدولة الدينية بفضاءاتها الميتافيزيقية، وتتعايش مع واقع الفتنة الكربلائية الغارقة في تاريخ طاعن من الصراعات الطائفية والجنون الدموي من ناحية، ومع شعار "واعتصموا…" تحت ظلال السيفين الرهيبين وبيعة المرشد من ناحية أخرى.. ومن نواحٍ ثالثة وعاشرة مع أمزجة القبائل ومراكز القوى المختلفة، ومع شعب مكلوم وأوجاع وذكريات كابوسية ودماء نازفة غير مسبوقة وأشياء كثيرة لا تحد ولا تعد. فهل أدمن الخلق على الموت؟
(طيب) أيها الأخوة والأصدقاء في الشرعية جربتم الحرب بدعم التحالف وبمساعدة العالم كله وجماهير الشعوب العروبية.. حتى أكملتم سنة رابعة خيبات، لماذا إذاً لا تتجمعون في مكان ما جنوب الربع الخالي، وهي مساحة وسطى بين المناطق المحررة وفنادق السعودية، وتتجهون على نياق حمر إلى مأرب والجوف ومنهما عبر تبات نهم إلى صنعاء الأبية، ثم ترفعون المصاحف على أسنّة الكلاشنكوف، وتفتحوها سلمياً لتدشنوا عصرا جديدا من الشطارة والتقية؟ وهناك أقيموا "مملكة الأقاليم الجمهورية" بعد أن تحصلوا على فتوى تجيز شرعاً الاختلاط بين الولي الفقيه ملك الحجارة الهضبية ومولانا العاشق لشريط البترول الممتد من مأرب حتى سيئون.
أقيموا أقاليمكم، إن استطعتم، وتقاسموا ولايتها وزيتها وطحينها ودوابها وخرابها. لا يجوز أن تزعجوا العالم بالصراخ اليومي للأقاليم التي أشعلت اليمن بعد توقيع مرسومها الحواري المشئوم مباشرة وأخذت البلد إلى منتصف الجحيم، مكسّراً ممزقاً يحتاج أن يبقى ملفوفاً بالجبس لعقود قادمة، عسى أن تُجبر كسوره العميقة.
حظ الأقاليم في النجاح لا يحتاج إلى مذاكرة في التاريخ السياسي وتجارب الأمم.. لأن اليمن حالة كونية مستعصية.. لكنه قد يحتاج (مجازاً) إلى تلسكوب عملاق للبحث في "العوالم الممكنة" عن يمن افتراضي مغاير لما نراه أمامنا.. أو إلى ضاربات الودع وبصورة أرقى إلى مذاكرة تنبؤات العرافة البلغارية الراحلة "بابا فانغا" العمياء لمعرفة إن كانت قد ذكرت شيئاً حول اليمن والانتقال إلى "أرض الميعاد" الاتحادية بعد أن تنبت للبغال أجنحة تطير بها إلى القمم!
لقد ضاع حوار الموفمبيك قبل انطلاقه، حين تحايلوا على قضايا استراتيجية معقدة بخفة المبتدئين والمدفوعين بحسابات خاصة للغاية، أفراداً وأحزاباً. لهذا طارت "ورقة اليانصيب" من يد صاحبها وأضاعت طريقها.. لينتهي بها الأمر إلى بطن القطيع. وبدلاً من أن تصبح فرصة تاريخية لمن يستحقها تحولت إلى فتنة.
وهكذا بعد أكثر من نصف قرن، قارب الواقع، بعض الشيء، رمزية "درب المهابيل" لنجيب محفوظ، التي ربما تكررت وتتكرر في منعطفات كبرى على منصات وطنية وإقليمية وبسيناريوهات كارثية.
لكن ما هو أشد وضوحاً الآن أن حكاية الأقاليم الستة حين بدأت مثلت اللحظة التي فلَت عندها (البريمو) إلى أياد أخرى. ومع أن مشرّعي الأقاليم تلك يدركون استحالة السير مجددًا في هذا الأمر وخطورة التشبث به، إلا أنهم مصرون على استكمال درب المهابيل.
وعلى أية حال، هناك شيء مهم للغاية لا يخرج عن السياق المسرود في هذا الحيز، وهو أن ورقة التحالف، بكل تأكيد، سوف تخطئ طريقها إذا استمرت المملكة السعودية معصوبة العينين تجدف فوق التيارات المتحركة لإخوان اليمن على طريقة "البيرد بوكس".. وقد تسير على درب المغدورين (المغفلين) بطريقة لا تخطر على بال أحد ولا حتى على خيال الحكائين في ليالي الشتاء الطويلة.