▪لا شيء أكثر وضوحاً من تكرار التاريخ اليمني لنفسه. ولا شيء أكثر غياباً من التطور المتراكم مقارنة بثبات التطور الدائري، إذا جاز لنا استخدام مفهومين خرج بهما السوسيولجي الروسي خازانوف في معرض تمييزه بين نوعين من التطورات في السهوب الأوراسية: "كانت التطورات الدائرية أوضح من التطورات التراكمية". حتى إن المهتم بدراسة تاريخ اليمن، يكاد يستطيع الإحساس بما يشبه الحتمية الجغرافية التي لا تقهر. والحتمية تنشأ عن مجموعة دائمة من الخصائص والشروط والقوى التي تؤدي إلى إنتاج وإعادة إنتاج اتجاهات سياسية وحوادث وأوضاع ومصائر نمطية إلى درجة نقترب فيها من التطابق مع فكرة مثيرة للجدل صاغها المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل وهي أن "الأحداث (التاريخية) ليست في وجهها الغالب إلا لحظات من الأقدار الكبرى وعبارات عنها".
وبحسب ماركيوز، فإن التغير التاريخي، منذ أرسطو، كان يوضع في مقابل التغيرات الطبيعية "وقد ظل هيجل محتفظاً بهذا التمييز". يعتقد هيجل أن التغير التاريخي "تقدم إلى شيء أفضل وأكمل"، على حين أن التحول في الطبيعة "لا يكشف إلا عن دورة تكرر ذاتها على الدوام". ويضيف ماركيوز معلقا: "وهذا واضح في حالة الكائن الحي الذي تكون حياته كشفاً لإمكانات متضمنة في البذرة، وتحققا دائما لها".
والأمر أكثر وضوحاً فيما يخص اليمن التي لم تبتكر حتى الآن مصيراً عظيماً يسمو بها فوق الشرط الطبيعي الميكانيكي لوجودها الحزين.
▪والحق أن بلدنا لم يشهد فترات طويلة من الاستقرار السياسي والاستمرارية المؤسسية. يستوي في ذلك يمن ما قبل الإسلام ويمن ما بعد الإسلام. يمن الإمامة ويمن السلطنات واليمن الجمهوري، اليمن المحتل واليمن المستقل، اليمن الموحد واليمن المفتت.
من ناحية عدم الاستقرار الممتد، كل التجارب والنماذج سواء. الفارق في الدرجة وفي النمط الذي يتحقق به الاضطراب ودورات التجزؤ.
وها هو اليمن يسقط في وحل التجزؤ من جديد، في حين أن اليمن الأعلى، حيث تقع عاصمة الدولة، يعيده الحوثي إلى حظيرة الإمامة، والمساعي جارية لإحياء نظام اجتماعي بائد.
على أن من السهولة بمكان استنساخ الدعوى التي كانت تستخدم قبل الحرب لتسويغ نقض وتفكيك عرى الدولة المركزية اليمنية، وبالتالي تنشيط هذه الدعوى على مستوى النطاقات الجغرافية الصغيرة والكيانات الناجمة عن التفكيك والانهيار.
ذلك أن دعوى "الهيمنة" متوفرة على الشروط نفسها في الأجزاء بالقدر الذي توفرت به في إطار المجموع.
وعلى امتداد التاريخ اليمني، القديم والحديث، لم يتوقف خط الجدل والتدافع بين مجموع محركات التوحيد ومجموع محركات التجزئة. وإذا حدث وتغلبت قوى التوحيد السياسي فإن قوى التجزئة تظل في حالة من الكمون وما تلبث أن تنقض على الهيكل وتعيد الأمور إلى سيرتها الأولى.
وكان هذان الاتجاهان التاريخيان البارزان يتوصلان في أوقات مختلفة إلى وضع من التكافؤ والاستعصاء.
المعروف أن مسارات تكوين وتشكل الدولة الوطنية القطرية في العالم قد استرشدت بالنموذج التاريخي الغربي رغم أنها اتخذت لبلوغ ذلك النموذج طرقاً وأساليب شتى.
لكن من النادر العثور على نماذج وتجارب يمكن الاسترشاد بها فيما يتعلق بإعادة بناء دولة وطنية بعد انهيارها نتيجة عوامل داخلية أو بفعل من الخارج أو بتظافر من الداخل والخارج. حتى وإن وجدت هذه النماذج والتجارب التي تعنى بكيفيات إعادة بناء دولة منهارة، إلا أنها لم تحظ بالتأطير الفكري وتحويلها إلى دليل نظري.