إننا نعيش أسوأ تزييف في حياتنا من خلال ما يدعيه بعض المتثاقفين باسم الحداثة، وحال اليمن اليوم حجري للغاية وكهنوتي للنخاع، وما يحدث في صنعاء ومناطق سيطرة الحوثيين أكبر دليل عملي وواقعي على ذلك.. نحن لم نعرف شيئا اسمه حداثة بالمعنى الحقيقي.. لم تكن "الحداثة" بالنسبة لنا سوى وسيلة لا غاية، وسيلة "للحاق" بركب الأمم ذات يوم عندما كان لنا دولة ونظام ولو في الحدود الدنيا، عندما كان أكبر هم المتثاقفين هو كيفية الكتابة والتنظير ضد النظام وانتقاد أي شيء لمجرد الانتقاد، وعندما كان هم الكتبة والملقنين والمؤدلجين كيفية رص التهم بعضها فوق بعض، والوقوف أمام بوابات السفارات في صنعاء بغية الحصول على تعاطف أو استلام مخصصات تلك الأعمال التي قاموا بها.
كانت الحداثة التي يلوكها البعض اليوم كذباً وزواً ربما وسيلة كي نصل إلى يمن أقوى عسكريا وسياسيا وأحيانا اقتصاديا، لننافس الغرب أو نتحرر منه في أضعف الأحوال، بهذا المعنى لم نعرف بالفعل أية حداثة فكرية أو اجتماعية.. يكفي نظرة واحدة لنكتشف من هم حداثيونا؟ جنرالات، عسكر، وزراء، أبناء الطبقة الأرستقراطية والإقطاعية والبيروقراطية ورجال التشتيت والفريق الديني، الذين سافروا إلى الخارج بغرض التعلم للإعداد لتولي مناصب آبائهم.. لم تكن حداثتنا نتاج صراع بين الفكر الباحث عن الحرية والجسد الباحث عن الإشباع مع قيود المؤسسات القائمة ولا نتاج النضال ضد الحكم المطلق والسلطة المطلقة للدين.
حداثتنا هي مجرد خطوة تقنية لا أكثر، لهذا لم ير حداثيونا والمتمنطقون بها أية حاجة لنقد أفكارنا الماضوية التي أصروا على منحها عصمة لم تتمتع بها حتى عندما وضعها أجدادنا أو حكامهم وساداتهم.. بالعكس كانت هذه الأفكار والأساطير هي شغلنا الشاغل وهي المر الذي نتجرعه اليوم تحت مسميات مختلفة أولها "الخلافة" وآخرها "الولاية والحق الإلهي".. أثبت واقعنا المعيش في ظل ثقافة القشور التي يتمسك بها المتثاقفون الجدد من يريدون صبغ المجتمع بلون واحد وتنميطه وفق أهواء فئة معينة أنه لا يوجد تناقض حقيقي بين أساطير أجدادنا والحداثة التي يروجون لها، فهم يمضون على نفس النهج الذي عفى عليه الزمن ويريدون إعادتنا للوراء ألف عام وأكثر.
الحقيقة التي تتجلى كل يوم هي أن المتمنطقين الطائفيين الجدد، وهنا أعني أولئك المحسوبين مثقفين وموكل لهم مهمة جذب واستقطاب ذوي الفكر والثقافة، أثبتوا أنهم حداثيون بالمعنى التقني وماضويون بالمعنى الفكري والاجتماعي والسياسي، لا فرق هنا بين يمين ويسار.. وهذا ما يتضح اليوم فيما يقدمونه للمجتمع وللعالم.
دعونا نحسب ماذا قدمت جماعات الإسلام السياسي في اليمن على مختلف مذاهبها وملهميها، من حسن البنا حتى الملاليين الجدد "الحوثيين"، لا شيء يذكر للحياة، لا شيء سوى وعد بجنة بعد الموت ووفرة ورخاء سحريين سنبلغها بأداء الصلوات الخمس والاعتقاد بشخصيات أسطورية عاشت قبل مئات السنين وبرجم الزناة والإيمان بالخلافة أو مبدأ الولاية والاصطفاء... الخ.
حداثة الجماعات الدينية في اليمن التي يتحدث عنها متثاقفوها وكتبتها المأمورون وناشطوها المدفوعون ومن تجندهم للاستقطاب لم تكن شيئا جديدا أو حديثا في تاريخنا ومجتمعاتنا، لأن الواقع أثبت أنها مجرد استيلاء وقمع وكل له عقيدته وفكره ومذهبه الذي يفرضه بالقوة، بالترهيب والترغيب على البشر تماما كما جرى في كل تغيير جذري طرأ على العقيدة السائدة في المنطقة، مع كل دين جديد جاء واستوطن بلادنا وعقولنا.. لم يكتشف أحد الإنسان بعد في الشرق.. لا نوجد ككائنات قائمة بذاتها، مستقلة، قادرة على التفكير بذاتها ولذاتها، نحن مجرد أعداد لا حصر لها ولا قيمة لها مكررة من نفس الشيء.. نكرر نفس الشيء، نؤمن بنفس الشيء، فنحن نؤمن لا نفكر، بالأحرى نجتر ما يلقى إلينا من أفكار، ما نلقنه من أفكار، نحن في الواقع متخلفون جدا عن المستوى الفكري والعقلي.
كلمة أخيرة عن الهستيريا الأخلاقية التي تجتاح جماعات الإسلام السياسي في اليمن خصوصاً جماعة الحوثي في صنعاء، إن تهتك وفجور الطبقة الحاكمة قديم جدا وتهتك الطبقة المثقفة هو الآخر قديم، وقد عاش الاثنان في عالمهما الخاص في ظل رغبة جامحة لسلطة مطلقة للمؤسسة الدينية على العقل الجمعي.. المتوكل الذي يكال له المديح من أكثر رجال الدين تشددا "لإطفائه فتنة خلق القرآن" كان مدمنا للخمر ولاهثا وراء ما يسميه رجال الدين أنفسهم بالشهوات والملذات.. لذا فجماعات الإسلام السياسي ومتثاقفوها وكتبتها يشبهون المتوكل، حداثيون عندما يتعلق الأمر بالجيوش وأسلحة القتل والدمار الشامل، ماضويون عندما يتعلق الأمر بحرية التفكير.