▪ الزيدية السياسية -وهي صيغة حديثة يستعيرها البعض من لبنان وسوريا، حيث يتم الحديث عن المارونية السياسية في لبنان والعلوية السياسية في سوريا- لا يمكن أن توجد في الواقع اليمني إلا من خلال مؤسسة الإمامة، وهذه المؤسسة كما نعلم مشروطة بتلاحم أكبر عدد ممكن من فئة السادة الهاشميين من أجل القيام بدور اجتماعي وسياسي متفوق. فإذا كانت الإمامة هي صرح الحاكمية السياسية في المذهب الزيدي، فالهاشميون العلويون بالضرورة هم سدنة الصرح ونواته ومركزه.
هذه الحجة تضرب الأساس المنطقي لأي مزاعم عن "زيدية سياسية" فيما يخص الحكومات الجمهورية بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962. إلا إذا كان الحديث على سبيل المناكفة والازدراء المناطقي، أما كوصف موضوعي، فإنه غير موافق للحقيقة في أبسط صورها.
ولئن استمرت في الزمن الجمهوري صورة معينة من صور "الهيمنة" على الدولة لمجموعات سلطوية مشيخية أو عسكرية تنتمي بالمولد إلى الجغرافيا الزيدية، فهذا الواقع، رغم ما أحاط به من تضخيم، ورغم إساءة تفسيره والتعامل معه، كان في طريقه إلى التلاشي مع مرور الوقت، فهي هيمنة محكومة بالتلاشي لأنها محض ترسُّبات اجتماعية امتدّت عُرفيّاً بعد سقوط الإمامة، ترسُّبات فاسدة لا ترتكز على نظرية أو فلسفة خاصة أو اعتقاد بالهيمنة كحق مقدس لفئة ممتازة. إنها امتداد عُرفي لحالة واصلت الوجود كتشوّه، ونقيصة، وزيغ عن المبدأ الجمهوري، حالة ليس بالإمكان أن تبرّر نفسها بالمنطق الجمهوري الذي كانت تنشط باسمه وفي صميم تكويناته الحكومية المدنية والعسكرية.
الإمامة هي الهيكل وهي الإطار المادي والروحي لـ"الزيدية السياسية"، إذا صح التعبير، ولا يمكن إلا بواسطة هذا الإطار أن تتجلى بوضوح علاقة هيمنة بين الفئة العلوية الفاطمية الحاكمة من جهة، ومن الجهة الأخرى يقف كل اليمن أعلاه وأسفله شرقه وغربه، مع اختلاف درجات وأشكال الهيمنة.
الجمهورية كمفهوم وكنظام للحكم لا توفِّر الأرضية القانونية والأخلاقية لعلاقة حكم غير مساواتية. وإذا كان هناك من تمييز واستبعاد يُمارَس تحت اسم الجمهورية، فلا شك أنه سيظهر بوصفه انحرافاً يرقى إلى الفضيحة بالقياس إلى روح النظام الجمهوري وجذره القانوني.
الزيدية كمذهب هي واقعة تاريخية وليست جوهراً اجتماعياً وجغرافياً.
ما الذي نعنيه بقولنا هذا؟
معناه أن المجتمع الذي أصبح زيدياً منذ مجيء الهادي الرسي في القرن الثالث الهجري، لم يكن زيدياً قبل ذلك التاريخ. وهذا يعني أن مجتمع "اليمن الأعلى" مثلما تَحوَّل إلى الزيدية، فليس من المستحيل أن يتحوَّل عنها إلى غيرها، أو أن يتحول، إن أمكن، من نسخة زيدية إمامية قوامها التمييز والاصطفاء الإلهي، إلى نسخة زيدية فردية واختيارية، أي إلى زيدية مخصية، مجردة من الوظيفة السياسية والاجتماعية المنوطة بالإمام.
ومن المفترض أن "المنطقة الزيدية"، في ظل الجمهورية، لم تعد زيدية البتة، أي أنها فقدت زيديتها بمعناها السياسي السابق للعام 1962، وهو المعنى ذاته الذي جاء الحوثي لإحيائه.
في العقود الستة الماضية، كان بإمكان المواطن "الزيدي" بالمعنى الجغرافي، أن يكون زيدي المذهب، أو أن لا يكون كذلك، يستوي في ذلك مع المواطن "الشافعي".
وإذا اختار أن يبقى زيدي المذهب، فإن بوسعه فقط على المستوى الفردي أن يكون كذلك في الفقه والعبادات، وهذا حق مكفول ترعاه الدولة بنظامها الجمهوري، الذي هو بمعناه البسيط أن يكون الشعب "إمام" و"سيّد" نفسه.
أمّا الزيدية كسياسة، فإن نشاطاً سياسياً لا يستحق صفته الزيدية إلّا إذا كان محوره "الإمامة" أو "الولاية" وما يتفرّع عنها من تشكيلات ومسمّيات، وهنا بالذات نجد مُسْبَقاً الأساس للتناقض الحربي المحتوم مع النظام الجمهوري.
وبالضبط هذا ما حدث من جانب الحوثيين. وقد شاهدنا للتّو كيف أدّى تحرّكهم السياسي والعسكري باسم الزيدية، في النهاية، إلى إسقاط الجمهورية ما إن وجدوا سبيلاً إلى ذلك، وتنصيب الولي، العَلَم، أمير المؤمنين، إمام الأمة... إلخ إلخ، فهي كلها تنويعات لبرنامج واحد مؤدَّاه قتل الجمهورية ومحاولة دفع الأمور إلى العهد المظلم السابق لها.