فهمي الكاشف

فهمي الكاشف

مظهر قاتم لحالة مألوفة في تاريخ اليمن

Friday 28 June 2019 الساعة 09:35 am

▪ تشكَّلت، جراء هذه الحرب، الملامح الرئيسية لوضع يمني شبه مألوف في تاريخ البلاد: 
فمن خلال مقاومات ذاتية أو بمعاونة من قوة أجنبية، كان يحدث بعض المرات أن تبدأ السهول والمنخفضات الجنوبية والسواحل الغربية بالتمرد والخروج عن سيطرة المركز السياسي في المرتفعات الشمالية.

ثم تبقى الأحوال على هذا النحو من الانتظار والترقب لفترة من الزمن، تطول أو تقصر، إلى أن تتهيأ ثغرة انقسام كبيرة بين النخبة المسيطرة في المركز والمرتفعات الشمالية، وهم الأئمة غالباً، فيبادر أحد المتنافسين إلى الاتصال بالقوى المتموضعة في السهول والسواحل الجنوبية والغربية، وبهذا كان الصراع ينتقل إلى عمق المركز في اليمن الأعلى، وهو ما كان يؤدي إلى سقوطه من يد الأئمة.. وبعد فترة من الزمن تبدأ سيرورة معاكسة.

لكن هل هذه السوابق التاريخية مهيأة للحدوث دائماً بنفس الآلية والتسلسل؟

من الصعب تأكيد ذلك، أو التكهن به كحتمية. ما يمكننا فعله هو التفكير في الأمر كأحد السيناريوهات المحتملة، وذلك في معرض الاستشراف لتطورات المسألة اليمنية في المستقبل.

▪ من المعلوم أنه في عام 2015، كان هناك من يرى في ذهاب الحوثيين إلى عدن تعميماً للكارثة ومنعاً لتركيزها، وبالتالي تعميم الإحساس بها، من أجل أن تكتسب بُعداً وطنياً يذكِّر الجميع بوحدة المصير، فتتولَّد عن ذلك إمكانات وطنية للفعل المؤدي إلى خلاص منها.

وهذا كان يعني: 
أن يقوم أحد الأطراف المتصارعة بأخذ اليمن قطعة واحدة، لكي يصبح من الممكن تخليصها منه قطعة واحدة. من هذا المنطلق استحسن البعض، ومنهم صالح وأنصاره، توجُّه الحوثيين إلى عدن طالما وقد تم تمكينهم من السيطرة على العاصمة صنعاء.

لم يكن من المُقدَّر لهذا المسار الطموح أن يتحقَّق. ليس فقط بسبب التدخل العسكري للتحالف بقيادة السعودية؛ بل لأسباب بنيوية متعلقة بحداثة الدولة اليمنية الموحدة وضعف الاندماج الحاصل بين مكوناتها، فضلاً عن أسباب متعلقة بطبيعة جماعة الحوثي المفتقدة كلياً لخواص القوة الوطنية التوحيدية.

بالنسبة للأسباب المتعلقة بحداثة تجربة التوحيد وضعف الاندماج، فالمنطق يخبرنا أن الجسم الاجتماعي، أو أي جسم مادي محسوس، عندما تتصف بنيته بالتركيب المفرط المصحوب بغياب التماسك الداخلي وبالاختلال، هذا الجسم يقاوم محاولات انتزاعه وحيازته كقطعة واحدة صلبة متلاحمة الأجزاء ولها مقابض وحدود. الجسم ذو التكوين المعقد والهش، يعيق إمكانية الإمساك به إلّا على أجزاء. 
في هذه الحالة يصبح التفتت ضرباً من المقاومة السلبية ذاتية الحركة ضد إرادة الأخذ غير المتبصِّر، لأن التفتت عامل إعاقة لليد الآخذة، أو على الأقل يجعل من الأخذ غير المبصر مهمة عسيرة المنال.

البلد الذي لا تستطيع قوة أن تظفر به قطعة واحدة أو أن تتخلى عنه قطعة واحدة، فإن ذلك يعود إلى أنه بالدرجة الأولى عبارة عن جسم يجمع في تكوينه بين التركيب المفرط والتماسك الضعيف بين أجزائه المرتبطة بعلاقة مرتخية مع المركز. (بالطبع لا نستطيع أن نعزو ضعف التماسك والاندماج ببساطة إلى قصور في سياسة نظام صالح، كما يفعل خصوم الرجل ونقاده. إذ لا توجد طريقة لتسريع الاندماج، في عشرين أو ثلاثين عاماً، وبالتالي الحصول على نتائج فورية. الاندماج الاجتماعي والثقافي في الدول هو محصلة زمن طويل من التفاعل المستمر والمشاركة والتنظيم والتفكيك والتركيب المدروس).

إذا لم تتوضَّح الفكرة، سوف نعيد صياغتها بطريقة أخرى: 
الشيء الذي لا يمكن لقوة من الخارج أن تضع يدها عليه وأن تمتلك مصيره ككل واحد لا يتجزأ، قد يكون هو نفسه ما لا يمكن لقوة عمياء من الداخل أن تمتلك مصيره كله، دفعة واحدة. الجسم المفرط التركيب، والمفتقر إلى الترابط بين أجزائه، يتطلب للتعامل معه طرقاً متبصرة ومفرطة التركيب، بما يتناسب مع تنوع خصائصه وصفاته المضطربة.

لهذا كان من النادر أن تسيطر على اليمن قوة احتلال، أجنبية أو حتى محلية، دفعة واحدة من شرقه إلى غربه ومن جنوبه إلى شماله. دائماً كان يجري الأمر على مراحل. وما إن يصبح اليمن بالكامل تحت سلطان هذه القوة أو تلك، حتى يبدأ بالتساقط والانفلات من القبضة إذا لم تتحلَ القوة المسيطرة بقدر عالٍ من السياسة مفرطة التركيب والشيء الكثير من فن الحكم.

نحن هنا نتحدث عن إشكالية بنيوية ضاربة في القدم، نحاول وصفها وتفسيرها، وهو جهد لا علاقة له بأحكام القيمة، الخير والشر، الوطنية والخيانة. رغم أنه لا يجدر بنا الثناء على التكسُّر ولا تحبيذه. ما نريد قوله هو أن هناك نسبة من ملامح الواقع المفكك، البغيض، نجد أصولها في بنى انقسامية غائرة، عميقة، لا تاريخية. الواقع الراهن لا يعكس سوى قابلية يمنية واحدة من بين قابليات أخرى كامنة في البنية الكلية للبلاد. التمزق السياسي قابلية مثله مثل التوحيد. وأما تحفيز القابلية للتمزق وتهيئة شروطها، فهذا هو ما يمكننا إدانة ولوم الفاعلين الحاليين عليه بمختلف توجهاتهم وأدوارهم الإجرامية.