▪ يعيد المؤرخين والنقاد المتخصصين بالشأن العراقي ما يوصف أحيانا، لا سيما في سرديات ما بعد الغزو الأمريكي، بأنه "هيمنة" للأقلية العربية السنية على جهاز الدولة الوطنية العراقية وهياكله العسكرية والمدنية، إلى المراحل التكوينية المبكرة للدولة.
الدولة العراقية الحديثة بدأت كنتيجة لما تعرف باتفاقية سايكس بيكو بين القوتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا.
بحسب الباحث والمؤرخ المهتم بالمجتمع العراقي حنا بطاطو، فقد لعب النظام الملكي الهاشمي الذي تأسس عام 1921 دورا هاما في هذه العملية. رغم أنه كان صنيعة للإنجليز، كما يقول بطاطو، إلا أنه عمل باختياره أو بحكم الضرورة بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الربط بين السنة والشيعة ودمج الشيعة في النظام السياسي.
وهذا يعني أن النظام كان يغلب عليه الجانب السني.
تشير دراسات أخرى إلى أن الدور السني البارز في الدولة العراقية يعود إلى أن الدولة تأسست على خطوط الإدارة العثمانية التي كان للسنة فيها اليد العليا.
ثم تراكمت تجربة بناء الدولة في إطار هذه الأوعية ذاتها. واستمر الحال بعد سقوط النظام الملكي في الخمسينات. من المنظور الطائفي، تستعاد تلك الحقب الزمنية كلها وصولا إلى نظام البعث وصدام حسين بصورة تنحو إلى الاختزال المغرض، فيقال بأن الأفضلية والسيادة كانت للطائفة السنية على حساب الأكثرية الشيعية والأكراد.
وهكذا تبلور بهدوء خطاب طائفي شيعي يجاهد لتخصيب الشعور بالغبن. وكانت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 بمثابة اللقاح الذي أعطى دفعة قوية نحو بناء أطر سياسية طائفية تتردد في أدبياتها أصداء سردية تتشكى من معادلة تاريخية "ظالمة"، وهو يستوجب إسقاطها واستبدالها بمعادلة أكثر إنصافا تقلب الهرم السابق المتخيل، فتصبح الأكثرية الشيعية على القمة الاجتماعية كاستحقاق مقابل التفوق العددي فقط، ثم تحل في رتبة أدنى منها الطوائف والمكونات الأخرى.
واصلت السردية نموها ونشاطها من موقع المعارضة لنظام صدام الذي، وعلى الرغم علمانيته المشهودة، إلا أنه راح يظهر من المنظار الطائفي كما لو كان مجرد تعبير من تعبيرات الهيمنة السنية على الشيعة.
ثم جاء الغزو الأمريكي عام 2003 وأطاح بنظام صدام حسين وكانت الرواية الطائفية الشيعية متأهبة لقطف الثمرة، وهو ما تم بالفعل. فالتركيبة السياسية الجديدة لعراق ما بعد الغزو الأمريكي، كانت تستبطن في عمقها روح الترسيمة/ الرواية الطائفية التفكيكية، لأن هذه الأخيرة كانت الأكثر جاهزية على المستوى التنظيمي وعلى مستوى الموارد والخطاب، وهكذا كانت الظروف المحيطة تصب في نفس الاتجاه.
لقد كانت المحصلة نظام سياسي طائفي، حيث أبرز صفاته وأكثرها وضوحا متجسدة من خلال هرمية مقلوبة للسلطة يقف الشيعة في القمة منها.. وذلك وفقا للتصورات الطائفية عن هرمية السلطة في عراق ما قبل الغزو الامريكي، والتي تم حسبانها على أنها كانت تعبر عن هيمنة السنة ومصالحهم.
وهو ما يعني الإتيان بعكس هذه الهرمية ويصبح كل شيء على أحسن ما يكون!
فهل ما يقال عن العراق يمكن أن يقال عن اليمن، دونما اعتبار لاختلافات التكوين الاجتماعي والسياسي بين البلدين، وكذلك الاختلاف في البنى الاقتصادية والثقافية، والمؤثرات الخارجية والموقع الجغرافي؟
لا أعتقد. إذا أراد المرء أن يلزم جانب الحقيقة، فلن يغامر بالخوض في المسألة اليمنية من خلال نتائج التحليلات الخاصة بعلاقات هيمنة تم افتراضها في جوهر المسألة العراقية. نعترف أن الإطلاع على الدراسات والتقارير بشأن الواقع العراقي يبعث شعورا مقلقا بالأعراض المشؤومة على نحو يشبه الوسواس الذي يستحوذ على بعض الأشخاص أثناء مطالعتهم أو استماعهم لمعلومات متعلقة بمرض خبيث.
لكن إذا كانت العرقنة في السبعينات والثمانينات تعني محاكاة واستنساخ سياسات وخطاب دولة حزب البعث العراقي، فاليمن لم يتعرقن في ذلك الحين على وجه التحديد. أي أن الأوضاع في اليمن لم تتحول إلى صورة من الأوضاع في عراق حزب البعث.
واليمن لن "يتلبنن"، لن يكون لبنان آخر، لأنه لو كان سيتلبنن فلماذا لم يتلبنن في التسعينات مثلا أو قبل ذلك؟ هل كان حينها غير جاهز ل-اللبننة بينما هو الآن أكثر جاهزية؟
هذا لا يعقل، لأنه سيعني أن تطورنا يتخذ شكل التقهقر إلى الخلف. وكأن لبنان أو العراق كانا هما المحطة أو النقطة القياسية التي كنا نسعى إلى بلوغها.
لو أن اليمن تعرقن سابقا، فإن من الممكن أن نتوقع أن يتعرقن الآن وتنشأ عملية سياسية على أساس المحاصصة الطائفية. وإذا تبين العكس، أي أن اليمن له خصوصيته وأنه حتى عندما يأخذ عن طريق العدوى من أكثر من نموذج وأكثر من تجربة ويقتبس من أكثر من أسلوب، فهو لا يفعل إلا لكي يدمجها كلها في تجميعة يمنية لها مذاقها الغريب والمميت أحيانا.
هل كان نظام صالح حالة مستنسخة حرفيا من نظام صدام حسين؟ لا. لم يكن كذلك بالتمام، وإن كان يحتوي أحيانا على أوجه شبه سطحية في بعض المسميات والملامح.
إذن لن يكون عراق ما بعد صدام سيناريو يمكن مشاهدته بالنص في يمن ما بعد صالح. ومع ذلك، ليس هناك ضمانة لكي نقول بأن الإفلات من العرقنة سيعني مصيرا أفضل لليمن. قد يكون مصيرنا أسوأ وأفظع من العرقنة واللبننة، لكن على الطريقة اليمنية.
في هامش مقالته عن حرب صيف 1994، التي نشرت بعنوان "الحرب الأهلية اليمنية وتأثيرها على دول الخليج العربي" ضمن كتاب لمجموعة من الباحثين الغربيين، كتب (روبرت د. بوروز) هذه الملاحظة المهمة: "كان معارضو اليمن الشمالي يشيرون إلى الرئيس علي عبدالله صالح بقولهم "صدام الصغير"، لكنه خاضع لتحكم الأصوليين الاسلاميين بطريقة مشابهة للرئيس البشير في السودان أكثر مما يشبه الرئيس صدام حسين في العراق" -
(هامش الفصل الرابع رقم 3، "حرب اليمن عام 1994" كتاب صدر في منتصف التسعينات عن مركز الإمارات للدراسات).