توجد فكرة مهيمنة على الكتابات التاريخية والاجتماعية، تختزل اليمن من الناحية التضاريسية إلى نسقين جغرافيين اثنين فقط: جبل وسهل. ويراد من هذا الاختزال العابر للعصور أن يساهم في تفسير الكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية.
هل هذه هي الحقيقة حصرياً؟ وهل المعطيات الاجتماعية مطابقة للمعطيات الجغرفية؟
في الواقع، اليمن مصاغ من أنساق طبيعية متعددة التركيب وبالتالي متعددة المفعول، وليس من نسقين اثنين فقط، وكل نسق تضاريسي يحتوي على أنساق وسيطة متفرعة أو مستقلة عنه، والنسق الفرعي يمارس على سكانه تأثيرات طبيعية متمايزة عن تأثيرات نسق فرعي آخر.
ما هي المواصفات القياسية التي تجعل من الجبل جبلاً ومن الهضبة هضبة؟
قد يكون هناك جبال من ناحية التركيب، كما يقول المؤرخ الفرنسي لوسيان فافر، ولكنها أصبحت سهولاً من الناحية الجغرافية.
من الناحية التضاريسية، نعرف أن هناك تناوباً في الإشارة إلى "اليمن الأعلى"، فمرة يشار إليه كمنطقة جبلية ومرة يشار إليه كهضبة عليا وأحياناً يتم الوصف الجهوي "شمال الشمال". وهي مصطلحات جغرافية تستعار غالباً بمضامين اجتماعية وسياسية انقسامية، أكثر من كونها تعريفات جغرافية دقيقة.
إذن ما هو الوصف الجغرافي الموافق للحقيقة العلمية؟
هذا السؤال يمس قضايا لا تزال مثار جدل وخلاف بين الجغرافيين وعلماء الاجتماع والمؤرخين. الأكيد أنه ليس هناك قواعد معيارية حاسمة صالحة للتعميم في الزمان والمكان.
"اليمن الأعلى"، بل واليمن عموماً، كما ذكرنا في البداية، يتألف من تركيبة تضاريسية متضادة ومتنوعة من حيث الخصائص المناخية والنباتية، من الجبل والسهل، والهضبة والسهل المتوسط، وبين الجبال والقيعان المحاطة بالجبال وكذلك الوديان والتلال والسهول التي نبتت فيها كتل جبلية.
كل درجة ارتفاع أو انخفاض عن مستوى سطح البحر، وكل خاصية وكل علامة تضاريسية، هي بالضرورة مصدر رئيسي لظهور فوارق في الصفات والأنشطة بين سكان قرية وأخرى، وبين تجمع سكاني وآخر، يحدث هذا داخل الهضبة العليا نفسها من اليمن، وهي تضم قيعاناً وجبالاً عالية وجزراً سهلية وأخاديد عملاقة، وكذلك في "اليمن الأسفل" الذي يتكون من جبال وسهول ووديان.
قبل ثمانين عاماً من الآن كان لوسيان فافر قد رفض الأخذ بالنظريات التي تتحدث عن الأقاليم الطبيعية، وهي أقاليم مناخية نباتية، "وكأنها مستودع لقوى تؤثر مباشرة على الإنسان، وأنها قوة سيطرة حاكمة، تترك طابعها على كل نواحي نشاطه المتعددة، والتي ليست إلا أثراً من آثارها".
يقول فافر إن الأقاليم الطبيعية (الجغرافيا والتضاريس والمناخ) "ليست إلا مجموعة من الإمكانيات للمجتمع البشري يختار منها ما يشاء ولكنه ليس مسيراً بها"، (لوسيان فافر، "الأرض والتطور البشري"، ص14).
يفضل لوسيان فافر التقليل من حتمية وجبروت العوامل الطبيعية والجغرافية في رسم الأنماط الاجتماعية للبشر، وهو يعتقد أن ما يقال عن تأثير الطبيعة والمناخ على أنواع النباتات والحيوانات لا يمكن أن يقال عن المجتمعات الإنسانية. هذه إشارة إلى أن ثمة تأثيرا معاكسا يمارسه البشر على الطبيعة "فهي مؤنسنة منذ البداية وخاضعة للتبدل بفعل الإنسان".
يقول فافر: "لا تمارس العوامل الطبيعية على الانسان أبدا فعلا آليا صرفا أعمى موسوما بالقدر". وأيا يكن رأي فافر، فهو لا ينكر تماما أفعال الطبيعة في تحديد أنماط الحياة بين الأقاليم الجغرافية والمناخية المختلفة. إنه يؤكد فقط على أن هناك تفاعلا بين الأرض وسكانها، وأن "كل الإمكانيات في سبيل تأسيس مجتمع إنساني معين في بيئة جغرافية معينة لا تفرض أثرها في نفس الوقت وبنفس القوة".
ويدعم وجهة نظره بالإحالة إلى كتاب "مس سامبل" وعنونه "أثر البيئة الجغرافية" فهي تقول إن "العوامل الجغرافية لا تتساوى جميعها في أهميتها" أي "أن هذه العوامل من حيث تأثيرها في النشاط البشري لا تعمل بنفس القوة في فترات التاريخ المختلفة"، وبالنسبة للشعوب والأقوام المختلفة.
فافر كان يقاتل بكل طاقته ضد الحتمية الجغرافية لصالح فكرة أن الأقاليم الطبيعية ليست سوى مجالات لإمكانيات الجماعات البشرية "تنوعات متغيرة باستمرار وطفرات جديدة منبثقة على الدوام". إن مجموعة من الإمكانات والخصائص الجغرافية والشروط الطبيعية لإقليم معين، لا تنتج الظواهر الاجتماعية والسياسية ذاتها في كل العصور، كما إن قيمة هذا العامل الجغرافي أو ذاك ليست ثابتة على الدوام وبصورة حتمية.
لا يصح تعميم خصائص هضبة ما على بقية الهضاب بل يجب أن تفرد كل هضبة بالدراسة كحالة خاصة. "لا توجد قاعدة عامة لظاهرة الهضبة التضاريسية"، هذا ما يستخلصة فافر من كتاب ل إليزيه ركلوس.
الهضاب تتراوح في الأهمية وفي الدور الجيوسياسي باختلاف الزمان والمكان. هناك هضاب يمكن النظر إليها بوصفها موانع وعوامل عزلة بين الشعوب، كما يقول فافر، "مثل هضاب الأقاليم المعتدلة فهي ليست موانع فاصلة بين الشعوب فحسب بل إن بعضها فياف صحراوية بسبب فقر التربة وقسوة المناخ البارد، مثل هضاب الإنديز التي تقع بين شيلي والارجنتين في أمريكا اللاتينية. لكن هناك هضاب من ناحية أخرى تتناسب مع سكنى الانسان ولا سيما الهضاب التي تقع في الاقاليم الحارة حيث يخفف الارتفاع من حدة الحرارة ويعمل على تلطيف الجو فكأنها حدائق غناء معلقة...إلخ"، (فافر، "الأرض والتطور البشري"، ص32 الجزء الثاني).
لنسأل في الأخير هذا السؤال:
هل اليمني الجبلي لا يزال يتشكل اجتماعيا في الوقت الحالي بضغط وحيد من العوازل الطبيعية القاهرة المحيطة به، حتى في عصر شبكة الطرقات والمواصلات والتعليم المركزي والتكنولوجيا التفاعلية والتجمعات السكانية المدينية المختلطة؟
لا أتوقع أن تكون سطوة التضاريس، وقوى العزل الطبيعية، على البشر موجودة بنفس الحدة والنوع التي كانت عليها قبل قرن مثلا أو بعد قرن من الآن. لكن هذا لا يعني نفي تأثيرها على نحو نهائي.
وإذا كان هناك من درس، فهو أن التفكير في الظروف التي تمر بها اليمن حاليا يستلزم طرح جميع التعميمات والبديهيات للمساءلة والتفحص النقدي العقلاني.