د. صادق القاضي
عن الثورة والحرية والفوضى.. والنوبلية نافخة الكير!
كثيرٌ من "الثوار". بعضهم من أروع الأصدقاء، "فوضويون"، بالمعنى الثوري لـ"الفوضوية"، كنظرية وفلسفة سياسية يسارية "محترمة".
مشكلتهم فقط أنهم لا يعرفون أنهم فوضيون، وبالتالي يتخبطون بين المطالب والمواقف المتناقضة، ولا يلتزمون بموقعهم المبدئي خارج وضد العملية السياسية برمتها.
عندما طالب هؤلاء، في بداية 2011، بإسقاط النظام في اليمن، وشجعوا حتى على إسقاط الدولة، كانوا يحملون مطلبا منسجما مع مبدأ الفوضوية التي تتعارض مع فكرة السلطة والدولة.
سألت السيدة توكل كرمان يومها: ما البديل؟!
قالت: المهم إسقاط النظام.
سقط النظام وسقطت الدولة، وسقط كل شيء.. وبدلاً من البديل غير المهم ثورياً، جاءت المليشيات الحوثية ببديل جاهز، وانقلبت به على الجميع وشردتهم في الآفاق.
حتى الآن ما زال كثيرٌ منهم أوفياء لهذا المبدأ، ويقفون بصلابة ضد الشرعية وضد الحوثيين، ضد الحراك، وضد الإخوان، ضد السعودية وضد إيران وضد الإمارات.. وضد كل مراكز القوى المحلية والإقليمية والدولية، وضد كل الأزمات والمشاكل وضد كل المقترحات والحلول..
بيد أن كثيراً منهم أيضاً، بات اليوم، -ربما اضطرارا- من أنصار الدولة والشرعية، في موقف مناقض تماماً لنفس المبدأ، ويبدو شكلياً قريباً للغاية من قيم "التحرر".
بين الفوضوية و"الحرية" فرق ضئيل، قد يضيع نظرياً في متاهات الفلسفة، لكنه واضح عملياً على أرض الواقع، وبالذات في الحصادات الختامية للأفعال السياسية.
الفوضوية لا تريد أي سلطة أو أي دولة من الأساس، المهم إسقاط النظام لصالح بدائل يوتوبية حالمة تشبه اللجان الشعبية في الكتاب الأخضر للقذافي.
في المقابل "التحرر" وعي وفعل بناء مختلف، يرتكز بالضرورة على الشعور بالمسئولية، والامتلاك المسبق للبدائل الملائمة عن النظام القائم الذي تتم الثورة عليه، سلطة بدلاً من السلطة، ودولة بدلا من الدولة.
بمعنى عدم ترك التوحش يدير الأوضاع العامة للشعب في ظل الفراغ السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي والإداري.. الناشئ عن سقوط النظام، كما حدث في ليبيا، وما زال يحدث في اليمن وبالذات في المناطق المحررة.
وضع كهذا قد يسعد ثورية عدمية مثل السيدة توكل، التي أصبحت الآن -بعد سلسلة من المواقف المتطرفة بين المتناقضات- ضد الشرعية وضد دول التحالف.. وكعادتها لا تعرف ولا تفكر ولا تبالي بالبديل.!
بل تريد النوبلية نافخة الكير هذه من الأشقاء في السودان والجزائر القفز إلى نفس الهاوية، وبنفس الاندفاع الأعمى لثورات الربيع العربي التي بدأت على الأقل في طلعاتها الأولى، كتوجهات سلمية مدنية تحررية.. لكنها سرعان ما سقطت في الفوضى والعدمية، ولعل التغني بصفة "الفوضى الخلاقة" ساعد في انزلاق هذه التجارب إلى هذه النهايات الكارثية، والحالة المحبطة من الفشل والضياع والعنف والدمار.