▪لا نملك معياراً حاسماً للمفاضلة بين طريقتين ومنهجين لتحليل العلاقة التاريخية بين كل من مجتمع ما يسمى "اليمن الأعلى" والمذهب الزيدي: فهناك الطريقة التي تقول بأن خصائص ومكونات المذهب الزيدي هي انعكاس لطبائع وحقائق المجتمع الذي انتشر فيه هذا المذهب، وأن هذا المجتمع هو بدوره انعكاس لتأثيرات شرطه الجغرافي، من تضاريس ومناخ وعوامل طبيعية واجتماعية أخرى.
وفي المقابل، هناك الطريقة الثانية التي تميل إلى دراسة المجتمع في "اليمن الأعلى" بالرجوع إلى المذهب الزيدي كمؤثر رئيسي في تشكيل السلوك والعادات والأخلاق وكافة جوانب الثقافة والشخصية.
فهل المجتمع في "اليمن الأعلى" نتاج للمذهب أم أن المذهب وتطبيقاته السياسية التاريخية كان نتاجاً لقوى المجتمع وقوى المجال الجغرافي؟
لا أظن أن من الضروري اختيار طريقة واحدة واستبعاد الثانية تماماً. قد نميل إلى تفضيل الطريقة الأولى لأنها ترجّح التحديد المناطقي الجغرافي لـ"اليمن الأعلى" على حساب التحديد الطائفي المذهبي، لكن من الخطأ نفي تأثيرات المذهب، بغض النظر عن حجم هذه التأثيرات ونوعها، علاوة على أن هذه التأثيرات ليست الوحيدة، فاليمن الأعلى، واليمن عموماً، خضع لسلطات وتلقيحات تاريخية كثيرة، محلية وخارجية، ومرَّت عليه تأثيرات من مذاهب وأديان وثقافات وأفكار متناقضة.
ومن الثابت تاريخياً أن الصيغة السياسية للمذهب الزيدي ممثلة في "الإمامة"، كانت في سجال عنيف مستمر مع المجتمع الذي ظهرت فيه ومع أعرافه الأصلية وأنماطه التنظيمية وعلاقاته. ولقد تخلَّقتْ عن هذا السجال، معادلة مضطربة من التأثير والتأثر، وهذا يعني في النهاية أن كل طرف من طرفي المعادلة قد حاول أن يترك بصمته في الطرف الآخر من المعادلة. ونشدد على أنها في كل الأحوال ليست سوى بصمات "تاريخية"، بمعنى أنها متغيرة في الزمن وليست علامات صميمية جوهرية صَلدة كالصوان.
▪وإذا صح أن "الإمامة" الزيدية الهادوية، من المنظور الجغرافي أو البنيوي الاجتماعي أو من منظور الأمد الطويل، تُعبِّر عن إمكانية/ حتمية تملك جذورها الخالدة في مجتمع وجغرافيا اليمن الأعلى أو شمال الشمال، فالتاريخ يدلنا على إن الإمامة ليست الإمكانية الوحيدة، أي ليست العَرَض الوحيد لجوهر مفترض. فمن المنظور نفسه مثلاً، نستطيع أن ننظر إلى "الجمهورية" كإمكانية أخرى من إمكانيات هذا المجال الاجتماعي، وهذه الجغرافيا، وهذه البنية، لأن الجمهورية ولدت لأول مرة فيه وليس في مكان آخر.
سيقال إن "الجمهورية" لم يُكتَب لها البقاء إلا بالتدخل العسكري المصري، هذا صحيح، لكن حتى التدخل المصري، من منظور الحتمية نفسها، ما كان له أن يتم لو لم يكن هناك في الهضبة العليا من الشروط ما يسمح بحدوثه. فضلاً عن أن الإمامة في بداياتها الأولى لم تتحقق إلا بمجاميع من الأجانب المقاتلين في صفوف الإمام الهادي. هذا يعني أن الإمامة أيضاً لم توجد فجأة بسلام وبامتثال طوعي، بل حفرت وجودها في كل مرة بالحرب والنزال والجريمة المنظمة.
▪لكن ثمة أمر مزعج لا ينبغي أن يفوتنا تسجيله هنا: ففي العهد الجمهوري، وعند الإشارة إلى مجتمع "اليمن الأعلى" أو شمال الشمال باستخدام كلمة "الزيود"، سواءً على سبيل النفور والنقمة أو التظلم، ولا سيما حينما تصدر عن شخص غير متدين (كي لا نقول "علماني" تحرياً للدقة)، ينحدر من خارج "الهضبة العليا"، فالذهن، عند نطق هذه الكلمة "الزيود"، لم يكن ينصرف إلى تخيل عمائم الأئمة والسادة، وهم مؤسسو الزيدية السياسية وممثلو سلطتها التاريخيون، ولم يكن ينصرف حتى إلى القضاة وهم الشريحة التي كانت تشكل الرتبة الثانية في هرم الإمامة، بل كان الذهن ينصرف إلى شيخ قبلي أشعث يمضغ القات بطريقة توحي بالجشع والهمجية، أو إلى قبيلي مسلح رث الثياب، أو عسكري نحيل القامة وغير حساس بالفطرة.
لا نعرف هل الصور الذهنية التي تحيل إليها كلمة "زيود" في العقود الأخيرة، كانت على هذه الشاكلة حتى قبل قيام الجمهورية؟
بعبارة أخرى: هل كان "السادة" والأئمة هم الطبقة التي يتوجه نحوها سخط واحتجاج اليمنيين من خارج "اليمن الأعلى"، أم كانت هذه المشاعر دائماً موجهة صوب مجتمع القبائل كاملاً دون تخصيص؟
بهذا المعنى أو ذاك، ليس من المؤكد أن "الزيود"، في نظر من ليسوا زيوداً جغرافيا، قد كفّوا عن أن يكونوا زيوداً - بالمعنى الجغرافي والاجتماعي. وحتى بعد القضاء على حكم الإمامة عام 1962، وحتى لو تسنَّن الزيود وتوهبنوا (نسبة إلى الوهابية) أو تأخونوا (نسبة إلى الإخوان المسلمين)، فإن ذلك لم يحرّرهم من نظرة متحيّزة ظلت تعمل، بلا كلل، على تثبيتهم داخل صفة "زيدية" متخيلة تم ترفيعها إلى مصاف الجوهر اللاتاريخي، الذي لا يحول ولا يزول!
والنظرة المتحيزة هذه ربما تحتاج إلى فهم وتفسير معرفي أكثر مما تحتاج إلى إدانة وشجب سياسيين.