فكري قاسم

فكري قاسم

تابعنى على

الحوبان

Tuesday 30 July 2019 الساعة 02:18 pm

سنة 1987 كان الحوبان بالنسبة لي هو أبعد مكان يمكنني الذهاب إليه خارج مدينة تعز وأطول طريق مسفلت تعبره السيارات، ولم يكن هناك في البلد كله طريق مسفلت يعطر الأجواء بروائح البسكويت وادخنة المصانع مثل الحوبان البعيد عن الزحام، وكانت تعز لوحدها من تستقبل زوارها بالأنسام والظلال في اسفلت طويل بين اشجار الكافور المطوبرات على جانبي الطريق، ويبدو شكلهن واقفات مثل مضيفات انيقات فارعات القوام رصهن إبراهيم الحمدي في خرطوم المدينة الخضير ليمنح المدينة الحالمة جمالاً أكثر مما هي عليه أصلاً.

سنة 2000 كان الحوبان بالنسبة للقادمين إلى تعز من المدخل الشرقي أو المغادرين منها يبدو مثل حرف Y وأشعر كلما كنت فيه أنني أسير راكبا السيارة إلى الـ YMEN من أجمل أبوابها الخضيرة، وعادة عندما أكون عند مفترق الطريقين بين خطي صنعاء وعدن قادماً إلى تعز أكون حينها في شوق كبير لطريق الخرطوم الطويل المؤدي إلى قلب المدينة النائمة في حضن جبل صبر العملاق.

وعندما أكون راكباً فوق السيارة مغادراً تعز عبر مفرق الـ Y متجهاً في طريقي إلى أي من صنعاء أو عدن عادة ما يكون ذلك الخرطوم الطويل ذو الأروان المتعرجة في عيوني هو آخر ملامح تعز أم المدائن وقبلة اليمن إلى التطور والتحضر والتمدن والأنسام المليحة قبل أن يتم قلع أشجار الكافور في سبيل توسعة طريق الحوبان الخضير ويصبح ذلك الخط الطويل أصلعا مثل رأس جدي!

شهد الحوبان تطورات كثيرة من بعد ذلك وتوسعت الطريق وتوسع العمران ولم يعد الحوبان بعيداً مثلما كان وأصبح بينه وبين المدينة روابط قربى كثيرة، كما أصبح الذهاب إلى الحوبان لأي ظرف كان سريعاً بسيطاً مثل طرفة عين، وصار ذلك الخرطوم الطويل المتعرج الأروان هو شريان الحياة المتدفقة من المدخل الشرقي إلى المدينة، وكان الطريق من مفرق الـ Y إلى قلب تعز كله بكله لا يأخذ أكثر من مجرد 10 دقائق أو ربع ساعة، فيما كانت حركة المرور اليومية لا تتوقف طيلة الأربع والعشرين ساعة في اليوم.

لكن الحصار الذي فرضه الحوثيون على شريان المدينة منذ انقلابهم على السلطة سنة 2015 أوقف الشريان الخضير عن التدفق وجعل من الحوبان أبعد منطقة في تعز! كما أصبح الوصول إلى الحوبان من قلب المدينة أو الذهاب من المدينة إلى الحوبان سفرا طويلا مرهقا للغاية، ويبدو الأمر بالنسبة للمسافرين كمن ينتقل من دولة إلى دولة أخرى عبر طرق جبلية وعرة بين قرى متباعدة، وأصبح طريق الـ 10 الدقائق السريع يأخذ من الوقت قرابة الـ خمس ساعات ويأخذ من الصحة الكثير بالنسبة للمرضى وكبار السن.

كان الشهيد إبراهيم الحمدي رجل دولة، كان محباً لبلاده رؤوفاً بتعز، وكانت تعز وفية معه وأعطته الرفعة والحب وأعطاها ما تريد، وخطط لها مستقبلها الواعد في الحوبان. وكذلك الرئيس الراحل علي عبد الله صالح كان له لمساته الخاصة لتطوير تعز، وفي عهده توسعت شبكات الطرق وأصبح الحوبان بشكل خاص مدينة مفتوحة لكل القادمين إليها، وكانت تعز وفية معه ومنحته الغطاء السياسي ورفعته مكان علياً، وتلك هي تعز لمن لا يعرفها، أصيلة لا تنكر جميلاً ولا تبخس معروفاً أو صنيعاً.

لكن قولوا لي بحجر الله ما الذي قدمه الحوثيون لتعز في عهدهم؟ لا شيء مطلقاً غير الحرب والهلاك والدمار والخراب والقتل والحصار وخنق الحوبان وجعل مسافة الـ 10 دقائق سفراً ثقيلاً لا يطاق، ولم يعد أحد يشاهد لوحة "ابتسم أنت في تعز".

لا يتمتع الحوثيون بأي نسبة من المسؤولية الإنسانية ليتسنى للمرء مناشدتهم بفتح طريق الحوبان باعتباره طريقاً لكل الناس، بينهم أولئك الذين يخضعون لسلطتهم الإجبارية أيضاً، وما الذي سيجعل الحوثة يتمتعون بالإنسانية أصلاً؟ وهم في الأساس جماعة انقلابية مسلحة لديها الاعتقاد بأنهم السلالة الأنقى التي اصطفاها الله لجعث البلاد والعباد!

وما لا يستطيع فهمه الحوثيون حتى الآن هو أن تعز مدينة تنتمي إلى العصر ولا يمكنها بأي حال من الأحوال الانصياع لغير الدولة والنظام والقانون. وهو ذاته أيضاً ما لا يستطيع فمهه حتى أولئك الذين يعتقدون أنهم حرروا تعز من المليشيات الحوثية بمليشيات أخرى أمرها مفضوح.

على أن تعز دائماً وأبداً في كل أحوالها أكبر من كل تسلط عابر طال بها الزمان أو قصر، بعد الحوبان أو أصبح الذهاب إليه سفراً طويلاً.