أدهشني ما رأيت من احتفاء اليمنيين بالذكرى الـ57 لثورة الـ26 من سبتمبر، كما لو أن الثورة أشرقت اليوم، وكأنما تبدأ مسيرتها اللحظة، صاخبة، مجلجلة، غلابة.
امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي، بالرموز الدالة على الفرح والبهجة بالمناسبة التاريخية.. كتابة اسم الثورة بيافطات عريضة، صورة العلم الوطني، صور زعماء الثورة وتمجيد لذكراهم، فيديوهات وتسجيلات لأغانٍ وطنية بأصوات محمد مرشد ناجي وأيوب طارش وعلي الآنسي، وغيرهم، وكذلك الأصوات المصرية: فائدة كامل في “اليمن أشعلها ثورة”، وحتى كارم محمود الذي غنى لثورة 26 سبتمبر من صرواح. صرواح التي كانت غداة الثورة نقطة صدام عند الجبهة التي يقود منها الشيخ ناجي الغادر فلول الإمامة الطامعة في استعادة صنعاء، هي صرواح نفسها اليوم التي تمثل نقطة صدام أيضاً مع الإماميين الجدد الذين لا يخفون عداءهم للجمهورية، وإن كانوا لم يمحوا اسمها بعد.
هكذا لاحظنا هذا التمسك بثورة 26 سبتمبر، بحرارة أقوى مما كان قبل 21 سبتمبر 2014. اللافت أن شباناً ولدوا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أظهروا تشبثاً بالثورة ومبادئها، أكثر من الأجيال التي شهدت الانعطاف بين عهدين، ولمست في حياتها البون الشاسع والكبير.
كانت الإمامة عهد عبودية بأدق المعاني. وبعيداً عن كتاب “واق الواق” للزبيري، وما كتب في ما بعد من شهادات ومذكرات حرص أصحابها على أن يبرزوا أدوارهم قبل الثورة وبعدها، بعضهم بالحق، وكثيرون منهم بالادعاء… بعيداً عن ذلك، فإن أصدق تصوير لبعض البشاعة في الحياة، ذلك الزمان البائس، نقرأه في مذكرات حسين المقبلي. الحفاء والقمل والجوع والأوبئة والرجل يقتل المسافر كي يظفر بكوت (جاكيت) من غير أكمام، لعله كان مهترئاً ورثاً. وكذلك ما كتبه عبدالله البردوني في مقالات ضمتها بعض كتبه.
ثم من يقرأ كتابي أمين الريحاني “ملوك العرب”، وعبدالعزيز الثعالبي “الرحلة اليمانية”، وقد طاف الأول في نجد، حيث السلطان عبدالعزيز آل سعود، والحجاز عند الشريف حسين، ودولة الأدارسة في صبيا عاصمة عسير اليمنية، والإمام يحيى حميد الدين في صنعاء.
إن الصورة الوحيدة التي يحتفظ بها الأرشيف للإمام يحيى، رسمها أمين الريحاني، ذات ليلة، في النزل الذي سكنه في صنعاء، بعد أن احتفظ في ذهنه وهو يتأمله ساعات المقيل. وفي المقيل نرى مما كتب الريحاني أن الإمام كان يدير الدولة على طريقة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، في إدارة شؤون حاشد والقبائل المتحالفة معها. على طريقة الأحمر، وطريقة أي شيخ قبيلة صغير، كان الإمام يطلع على الأوراق، ويدون عليها ردوده وأوامره. وقد تطورت تلك الطريقة في عهد القاضي عبدالرحمن الإرياني، بوجود قاضيين معممين يجلسان عن يمينه وعن يساره، في الطاولة ننفسها التي يدير منها الدولة، يقران الأوراق، ويوجهان عليها، ويدفعانها إلى الرئيس كي يضع عليها إمضاءه.
هذا الوضع البدائي المتخلف انتهى مع إبراهيم الحمدي، بإنشاء مؤسسات حديثة، واحدة منها مكتب رئاسة الدولة. وكان نائب المدير فيه الشاب النشيط والذكي سالم السقاف، هو مديره الفعلي، وقد ذهب يفتش عن أفضل الكوادر في الوزارات والهيئات، ويختارهم للعمل معه، بل لقد طاف في بعض الجامعات، ومنها الجامعة الامريكية في بيروت، يبحث عن مؤهلين في العلوم السياسية والقانون والاقتصاد والاجتماع، ليلحقهم بالعمل في مكتب الرئاسة.
لم أزل أتذكر ما كتب الصحفي المصري يوسف الشريف، في “روز اليوسف”، عن أول حديث صحفي أجراه مع إبراهيم الحمدي، إذ قدم له بأنه وجد صورة جديدة تشكل ملمحاً للاتجاه نحو بناء دولة جديدة، فقد استقبله الرئيس في مكتب للرئاسة، يضم جهازاً فنياً، وكان القاضي الإرياني استقبله، من قبل، في سطح منزله، بينما يتوضأ بماء من إبريق، لصلاة العصر.
فقد كان الإرياني استمراراً بالشكل لنظام الإمامة. ومن حيث المضمون، فقد مثل عودة خجولة إلى ذلك الماضي، باستيلاء من يحملون ثقافته البائسة على مؤسسات الحكم، حاملين معهم روح الانتقام من النزعة الثورية التي فجرها سبتمبر، فنشروا المظالم والفساد، وأحيوا أجواء الحياة المكفهرة، باستثناء حركة التعليم التي استمرت مع تغيير سلبي في الإدارة والمناهج.
ثم جاءت حركة 13 يونيو، بقيادة إبراهيم الحمدي، فهيأت بسرعة منقطعة النظير، مناخاً عاماً جدد روح الثورة بأكثر مما كانت متوهجة عقب قيامها. وفي عهده الزاهر، صار الفساد لأول مرة غريباً في اليمن، وتجددت الأماني بأن أهداف ثورة سبتمبر ستجد طريقها إلى التجسد في الواقع. لكن الفرحة لم تطل، فقد انقض أعداء الثورة على الأمل البازغ، ومضت السياسة خلال سنوات طوال، تمهد الأرضية لبعث الأئمة من قبورهم.
وأعود للريحاني، كيف تلقى تحذيرات في عدن، من السفر إلى مملكة الإمام، لكنه وصل صنعاء، رغم مفاجآت مفزعة ومواقف مسلية.
ومن المسليات أنه حمل رسالة من وكيل الإمام في عدن، القاضي عبدالله العرشي، إلى علي الوزير، نائب الإمام في تعز، وفي ماوية سلمه الرسالة داخل غرفة صغيرة، حيث الرجال، وأعشاب القات تملأ المكان، ودخان المدائع يملأ هواءه، وقرأ الوزير الرسالة: “قادم إليكم السيد أمين الريحاني”، فسأل الضيف: “حسني ولا حسيني؟”، أجاب هذا أنه مسيحي.
أما عبدالعزيز الثعالبي، فيحكي أن الفلاحين توافدوا عليه في المنزل الذي أقام فيه في “ذي سفال”، يعربون عن فرحتهم بعودة الأتراك، ليخلصوهم من ظلم الإمام، وقد ظنوه تركياً من الطربوش الذي يعتمره.
في الرحلتين، بانوراما تصور بؤس ذلك الزمن الأسود. ولذلك، وخوفاً من عودة ذلك الانحطاط، يبتهج اليمنيون بذكرى ثورة 26 سبتمبر، إيماناً وتصميماً.
*نقلاً عن موقع (المشاهد)