من زاويةٍ ما. يبدو التاريخ عبارة عن "لعبة غميضة"، أو "شرطة وحرامية". السفلة يختبئون في ملاجئ مموّهة جيداً، والشعوب تحاول "قفشهم"، وكلما انكشف أحد المخابئ، انتقل السفلة إلى ملجأ آخر، لتبدأ دورة جديدة من اللعبة.
كان السفلة القدامى يختبئون خلف أهداب الدين وفضيلة التقوى.. ويحكمون باسم الله.. احتاجت الشعوب لآلاف السنين العصيبة لاكتشاف زيف هذا الملجأ، وبالكاد استفاقت من هذا الأفيون الشامل.
لم يكن أحد يتوقع أن "البابا" أو "الحاكم بأمر الله" سيصبحان شيئاً من الماضي البعيد.. راسبوتين نفسه لم يكن يتصور أن نهايته ستكون على إيقاع ثورة شارك فيها الفلاحون البسطاء لإقطاعيته.
لكن ذلك حدث. رحل البابا "الكنيسة"، وجاء القيصر "الديكتاتور"، انزوى رجل الدين "راسبوتين" خلف القيصر، ثم رحل القيصر وجاء لينين، وفي مناطق أخرى جاء هتلر وموسيلني..
في كل دورة من اللعبة كان السفلة الجدد يلعنون السفلة القدامى، ويصبحون أكثر خبرة في المراوغة والتمويه والاختباء خلف مقدسات بديلة بشعارات أكثر حداثة وإغراءً.
الأُمّة. القومية. الشعب. الوطن.. هي رغم نبلها، شعارات فضفاضة قابلة للقرصنة والانتهازية. حتى"الحرية" بل هي بالذات، فهي الأكثر جاذبية ومرونة وقابلية للتشكيل، لقد تجلت في الأغلب بمخالب السباع لا بأجنحة الحمام. بفزع قال أحد الفلاسفة: "أيتها الحرية.. كم اُرتكب باسمك من جرائم".!
"الثورة" بشكلٍ خاص. الشموليات الجديدة: النازية والفاشية والشيوعية.. كانت كلها ثورية. وفي أكثر من 90% من الحالات. قدمت الثورة للشعب قيوداً أكثر نكايةً وخشونة من قيود الأنظمة السابقة.
على ضوء هذا الانكشاف الثوري العام. لاحظ الروائي الانجليزي "هـ. جـ. ويلز" في القرن التاسع عشر، أن الثورية هوس عقلي خطر، وتنبأ أن يتم عزل الثوار عن العالم مستقبلاً في مصحات أو سجون خاصة في سيبيريا.
عندما قال "صمويل جونسون": الوطنية هي آخر ملاجئ السفلة، لم يكن يعرف أن اللعبة مستمرة، وستظل مستمرة، بين الشعوب التي تصبح أكثر خبرة باكتشاف الملاجئ، والسفلة الذين يصبحون أكثر خبرة بالاختباء والتمويه.
كذلك الفيلسوف الأمريكي "فرانسيس فوكوياما". في كتابه الذي حظي بشهرة عالمية استثنائية في العقد الأخير من القرن الماضي."نهايةُ التّارِيخ والإِنسانُ الأخير".
توقع أن هذه اللعبة ستتوقف. وبخلاف التشاؤم الذي قد يوحي به العنوان. هذا الكتاب مسرفٌ بالتفاؤل، ويبشّر العالم بمرحلة "ما بعد الشمولية" و"ما بعد الأيديولوجيا"، و"ما بعد الماركسية".. وما بعد أشياء قهرية واستلابية كثيرة، لصالح الحرية والعدالة والمساواة.. و"عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية".
كغيرها. احتفت الثقافة العربية بهذا الكتاب، وبالغ بعضهم في إضفاء أهمية حالمة عليه، كعادتهم وهم يتحدثون عن ما بعديات أخرى، كـ"ما بعد الديمقراطية" أو "ما بعد العلمانية" في هذه البيئات الاستبدادية الكهنوتية التي لم تعرف الديمقراطية ولا العلمانية بعد.!
لكن الأسوأ والأكثر سخرية في السياق العربي، أن تاريخه الحديث يجري تقريباً بالمقلوب، وبالتالي فهذه اللعبة، لعبة السفلة والملاجئ، تجري على عكس اتجاه حركتها في العالم.
في الوضع الصحيح كان يُفترض أن يبدأ التاريخ العربي الحديث بمد الإسلام السياسي ووصول الجماعات الدينية إلى السلطة، وقيامها بفرض النظام الثيوقراطي.
ثم في الدورة التالية للعبة يأتي دور المد العلماني القومي والاشتراكي.. كاستبداد شمولي مستنير، يفشل وينحسر.. ثم يبدأ المد الليبرالي كما حدث في كثير من بلدان العالم الأول.
لكن ما حدث هو العكس. كانت مصر ليبرالية في عهد الملك، ثم أصبحت يسارية في عهد الثورة، وصولاً إلى وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الرئاسة.!
في العالم العربي عموماً، كانت سبعينيات القرن الماضي موسم المد اليساري القومي والاشتراكي، واليوم موسم المد الديني، حلت منظمة القاعدة محل الحزب الاشتراكي في اليمن، وبدلاً من علمانية حزب البعث في العراق والشام تمددت سواطير داعش.!
حتى الفكر الديني نفسه، ينحدر في هاوية السقوط منذ مئة عام، بدأ هذا الفكر الديني بعبد الرحمن الكواكبي وانتهى بالشيخ العرعور.!
ليس للتاريخ مسار حتمي، لكن العالم في المتوسط يسير للأمام، بينما العالم العربي يدور حول نفسه، ويتضمن كل المفارقات، كما لو كان مخزناً لخردوات هذه اللعبة، الملاجئ من كل نوع وزمن، حاضرة بقوة، والانتهازية فاعلة على كل الجوانب وعلى مختلف المستويات.!