في الوقت الذي ظهر فيه أعظم وأكبر العقول العربية، كان رجال الفلسفة هم المقربون للسلطة، وكانت الفلسفة تحظى بأعظم الاهتمام من قبل السلطة، وكانت تدرس بالأندلس داخل المساجد.
وفي هذه المرحلة حدثت التغيرات داخل السلطة وأتى الأضعف، وبدأت رحلة العودة للخلف التي لم نستطع أن نخرج منها حتى اليوم.
ولشعور السلطة بضعفها وعجزها أمام تفتح العقل، كان عليها أن تتخذ أسهل وأقصر الطرق، التحالف مع الوعاظ والفقهاء وشن حملتهم ضد الفلاسفة وإعلان إغلاق العقل نهائيا.
انتهى المطاف بابن رشد منفيا في قرية يهودية، بينما الوعاظ يسرحون ويمرحون في قصور الأمراء، يدجنون الناس للسلطة كيفما تشاء، لكن النهاية كانت لهذه السلطة.. إنهم جميعا بكوا كالنساء لأنهم أضاعوا ملكا ولم يحافظوا عليه كالرجال. وليس كما قيل أنه آخرهم فقط، بل ما زالت الأمة تمارس نفس الطريقة، وتجني نفس النتيجة.
فما زال العقل العربي حتى اليوم يتفاعل مع الوعظ مهما كان كذبا ونفاقا، وتغدق عليه السلطات أموالها، بينما كل صاحب رأي حر ومسؤول محارب ومتهم.
بكل إرهاب فكري وسياسي تشن الحمالات على كل صاحب رأي، وتعتقد كل سلطة ما أو قوة معينة بأن أي فكرة نقدية، أو تحذير من كارثة، أو رأي حر لمعاجات ما، هو بالضرورة استهداف لتوحيد الصفوف وبث للشقاق.
وهي بهذا تقول إن النفاق السياسي هو الوطنية، والتعبير عن المسؤولية الأخلاقية.
وهكذا يتم السير المتدرج بطريق الانهيارات، وتخريب قيم المجتمع وافساد الناس بآرائهم وأفعالهم، فتزداد كل قوة وسلطة ترهلا وتخلفا في أدائها، بدون أي إحساس أو مراجعات من سلك المسارات الخاطئة. فتشيد كل قوة وسلطة انجازاتها بكلام الخطباء والشعراء وكل المادحين وهواة الوعظ، وأمراء الدجل والنفاق.
لا أدعو للفوضى والهرج والمرج، ولكني أقرأ مشكلة الأمة، ومدى حاجتها إلى نقد عقلاني مسؤول بعيدا عن النفاق والتخندقات والمغالطات، وما أحوج الأمة أن توفر بيئة لهذا، في حين بيئة النفاق والوعظ والمزايدات نا زالت هي المسيطرة.