من المهم الإشارة بدايةً، إلى أن للشاعر والأديب اليمني الكبير "عبد الله البردوني" كثيراً من القصائد بل والدواوين الشعرية والكُتب والأعمال الأدبية والنقدية والتاريخية.. لم تنشر بعدُ. لأسباب يطول شرحها في هذا المقام.
ما يعنينا هنا هو هذه القصيدة المنسوبة إليه المذكورة أدناه*، كحالة خاصة، فهي على عكس معظم نصوصه وأعماله التي لم تنشر، تُنسب إلى المرحلة الأولى من تجربته الشعرية في عهد الإمامة.
القصيدة عبارة عن تهنئة شعرية للإمام أحمد حميد الدين بعودته من رحلته العلاجية التي قام بها إلى روما عام 1959. وفيها الكثير من التمجيد للإمام، والثناء على نجله ولي العهد الأمير البدر.
السؤال: هل حقاً هذه القصيدة للبردوني؟ وإذا كانت له. لماذا لم ينشرها في حياته؟!
لا إجابة قاطعة على أيٍّ من الجانبين. وأول ما يتبادر إلى الذهن شيئان:
- إما أن هذه القصيدة منحولة على البردوني من قبل أنصار ودعاة الإمامة لأسباب يمكن فهمها.!
- أو أن هذه القصيدة للبردوني. لكن مضمونها الممجد للإمام أصبح محظوراً وحال دون نشرها لاحقاً في العهد الجمهوري.!
في كل حال القصيدة مذكورة في كتاب "في الموكب الناصري" لمؤلفه "محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الشامي"، وقد تناولها وأعاد نشرها الكاتب "عبدالجبار سعد" باعتبارها من الموءودات الشعرية للشاعر عبد الله البردوني.!
من الجانب النقدي. من حيث الشكل تتوفر القصيدة على خصائص اللغة والأسلوب البردوني في تلك الفترة المبكرة من تجربته الشعرية.
كذلك من حيث المضمون. لا شيء مختلف. وتمثل امتداداً لمضامين قصائد سابقة قليلة للشاعر قالها في مدح الإمام أحمد وولي عهده.
قد لا يعني هذا شيئاً حاسماً لإزالة شبهة الانتحال، خاصة وأن الأسلوب البردوني مدرسة يمكن محاكاتها أسلوبياً. أحياناً ببراعة مذهلة. وهو الحاصل كثيراً في الشعر اليمني المعاصر.
لكن، مع ذلك، يمكن ترجيح نسبة هذه القصيدة للبردوني، بناءً على هذه القرائن وغيرها، وفيما يتعلق بعدم نشر الشاعر لها في حياته، فككل شاعر، هناك قصائد كثيرة يتم استبعادها من النشر، بمعايير ذاتية وفنية مجتمعة.
لا علاقة بمحظورات النظام الجمهوري بعدم نشرها لاحقاً، فللبردوني عدة قصائد في مدح الإمام أحمد وولي عهده، منشورة، وأعيد نشرها مراراً في دواوينه المفردة وفي أعماله الشعرية الكاملة.
كما لا مشكلة في علاقة البردوني حينها بالإمام، فقد كانت علاقته السلطانية تلك قائمة على أسس وقيم نسبية زمنية لا غبار عليها كعلاقة معظم شعراء اليمن في تلك الفترة وقبلها على رأسهم الشاعر الزبيري.
في تلك المناسبة بالذات "عودة الإمام من رحلته العلاجية" احتشدت لتهنئة الإمام نخبة من كبار شعراء وأدباء اليمن شماله وجنوبه، منهم: عبد الله حمران، والشيخ محمد أحمد منصور، وعبد الرحمن بن محمد قاضي، ومحمد سعيد جرادة، وعبد الله بن عبد الوهاب الشماحي، وعلي بن علي صبرة... وغيرهم.
كل هؤلاء الشعراء والأدباء والمثقفين وغيرهم كانوا أبناء زمانهم، زمن كان فيه المد القومي في ذروة عنفوانه، ومثلهم، كان البردوني متأثراً بالقيم والتوجهات القومية التحررية التقدمية، ويؤمن بأهمية المعاصرة والتحديث، وإمكانية إصلاح النظام الإمامي من داخله.
من هذا المنطلق تبلورت علاقة البردوني بالإمام أحمد وخاصةً بولي العهد البدر، الذي كان يبدي حماساً للتحديث، وانحيازاً للقضايا والطموحات القومية، واشتهر بحبه وإعجابه بالزعيم جمال عبد الناصر.
ومن هذا المنطلق نفسه تبلور موقف الشاعر لاحقاً ضد الرجلين وضد النظام الإمامي برمته، وانحيازه إلى خيار الثورة والتغيير.
كان هذا العام فاصلاً في حياة البردوني السياسية، لقد يئس تماماً من جدوى أي محاولة لإصلاح هذا النظام الكهنوتي المتحجر، فبدأ في صب جام غضبه عليه، والدعوة لاجتثاثه والثورة عليه.
**
* أدرى البشير بأي بشر نادى؟!
أدرى الـبـشيـــر بأي بشـــر نـــادى؟
ولـمـــن أقـــام العـــرس والأعـيـــادا؟
نادى فألقى البشر في الخضراء كـما
يلقـــي فـــم المحبـــوبـــة الميعـــادا
فإذا السهـول الفيـــح تـــورق بالغنـــا
وإذا الـهـضـــاب تـبـعـثـــر الإنــشـــادا
*
من ذا أتى الخضـــراء؟ .. أتاها عائـــد
حملت هــواه علـــى الفـــؤاد فـــؤادا
لمـا رأتـــه تراكضـــت تلقـــي علـــى
كــفــيـــه قــلــبــا طائــعـــا وقــيـــادا
ومـضـــت إلـيـــه كالشـعـــاع كأنـــما
أرواحــــها تـــتـــقــــدم الأجـــســـادا
ولـــوت ذراعـيــــها عـلـيـــه تـضـمـــه
وكـــأنــــما تــســتـــرجـــع الأكـبـــادا
نزل الإمام علـــى البـــلاد فطالـعـــت
فـــي وجـهـــه الآمـــال والإســعـــادا
سل كيــف لاح وكيـــف غـــاب فإنـــه
كالفـجـــر أغفـــى لحظـــة وتهـــادى
كالشمس غاب عن العيون شروقـــه
أمـــدا وكالشمـــس المنيـــرة عـــادا
غـمـدتـــه أنـــواع الـسـقـــام وحـــده
حـــد الـحـســـام يمـــزق الأغـمـــادا
هــزم المنيـــة فانثنـــت عـــن بابـــه
مـــذعـــورة تـسـتــنــجـــد الأبـعـــادا
أعــيـــا يـــد الصيّـــاد صـــقـــر مـــارد
قـــهـــر الـشـبـــاك وروع الــصــيـــادا
خلـــع الشبيبـــة وارتـداهـــا غـضـــة
وأعـــاد عــمـــرا وابــتـــدى مــيـــلادا
واقـــتـــاد تـاريـخـــا إلـــى تـاريــخـــه
وحـــوى إلـــى أمــجـــاده أمـــجـــادا
*
يا والـد اليمـــن السعيـــد وخيـــر من
يـــدعـــى أبـــا مـــن يسعـــد الأولادا
نفضت يـــداك متاعـــب الخضرا كمـــا
نفض الشــروق عن الجفـــون رقـــادا
لمّـــا رفـعـــت البـــدر أطلـــع ضـــوؤه
فـــي كـــل جـــو مـشـــعـــلا وقـــادا
ومشى على آثـــار خطـــوك خطـــوه
فهـــدى الهـــداة وأرشـــد الإرشـــادا
لم تمنـــح البـــدر القيـــادة والقـــوى
إلا لُــــيــــنِــــهــــض أمــــة وبــــــلادا
والـبــدر وهو فـــؤادك الثانـــي فتـــى
نــزل الـقــلــوب فــأطــفــأ الأحــقــادا
ســـل ذلك الإبـــراق والإرعـــاد مـــن
خمـــد البـــروق وأسـكـــت الإرعـــادا
لا يقهر الزمن العنيــد ســـوى فتـــى
خطـــرا أشـــد مـــن الزمـــان عنـــادا
*
يا أحمد بن المجــد لاقـــاك الحمـــى
وكــــأنــــه قــــلــــب يــــفـــــور ودادا
يـــا قائـــد اليمـــن الكبيـــر شمالـــه
وجـنـــوبـــه يـلـقـــي إلـيـــك قـيـــادا
حرق الجنوب قذائف فـــي مهجتـــي
تغـزو الحـــدود وتسحـــق الأســـدادا
وحدي وفي أرض الجنـوب عشيرتــي
تتطلـــب السقيـــا وتـــرجـــو الــــزادا
وتسيـر في الأصفــاد تائهـــة الخـــطا
تـســتــنــجـــد الأغـــوار والأنـــجـــادا
*
يا ناصـر الديـــن المظفـــر لـــم يـــزل
شمسان يسطع باسمــك الأطـــوادا
شمســان أرعـــد بالإبـــا وتململـــت
هضبـــاتـــه تتـحـــرق اسـتـشـهـــادا
أنف الدخيل فسر إليــه وشـــد فـــي
زنـــديـــك منـــه ســـواعـــدا وزنـــادا
واذر العداة على السفوح وفي الربى
مزقـــا كـــمـــا تـــذرو الريـــاح رمـــادا
يـــا صاحـــب العرش المنيـــع تحيـــة
جـــادت وحيـــت مـلـهـــمــا وجـــوادا
هي من بنـات الشعـــر لكـــن فنـــها
أعـــيـــى الفحـــول وأعجـــز النقـــادا
مـولاي ســـل عنـــي النبـــوغ فإنـــه
أشقــــى بـــي الأعـــداء والحســـادا
أنـا إن أجـــدت الشعـــر فيـــك فإنـــه
تـاريـخـــك الــفـــذ المـجـيـــد أجـــادا