د. عبد العزيز المقالح

د. عبد العزيز المقالح

كتابٌ من شرق الحكمة والثقافة الإنسانية*

Monday 15 June 2020 الساعة 08:09 am

منذ وقت ليس بالقصير ومحاولاتي لا تتوقف عن الدعوة إلى الاتجاه شرقاً للبحث عن ثقافة لم يدركها التكلس والعطب، ثقافة لاتزال طرية وتحمل الكثير من الرؤى والأفكار الخالية من كل ما يتصادم مع القيم الروحية والإنسانية. لم أنسَ في هذه المحاولات أن أشير بوضوح إلى أن الغرب الذي استولى على مشاعرنا بثقافته لفترة طويلة من الزمن المعاصر لم يعد يمتلك أي شيء جديد يقوله أو يضيفه، لقد جفّت ينابيعه الثقافية، وصار ما يقدمه في هذا المجال عبئاً على الحياة والكتابة. وكان النابهون من مبدعي الغرب قد تنبهوا إلى هذه الحقيقة منذ وقت مبكر، فاتجهوا إلى الشرق يستمدون منه التوهج والألق ويجدون في مخزونه الإبداعي الكثير مما افتقدوه في ثقافتهم الغاربة، أو التي كانت في طريقها إلى الغروب.

لن أتكلم في هذه الزاوية، وفي هذا الحديث عن سحر الرواية الشرقية ولا عن جماليات الشعر وحرصه على مواكبة مسيرة الإنسان دون أن يضحي بخصوصيته الفنية، كما لن أتحدث عن السينما الشرقية عامة واليابانية خاصة؛ فذلك شأن المتخصصين الذين يقولون إن (طوكيو) تفوقت على (هوليوود)، وقد شاهدت بعض هذه الأفلام؛ فأذهلني ما تميزت به من تخطيط وتقنية وبذخ في الإنفاق، ولن يتضمن حديثي هذا شيئاً عن الموسيقا ولا عن التصوير وبقية الفنون التي تشكل عالم الشرق، وتعكس معالمه وايحاءات طبيعته وتكويناته ذات التنوع المثير والمدهش، ولكني سأتوقف عند جهد لمفكر من هذا الشرق، وفي واحد من كتبه التي أثرت الوجدان الروحي، ووقفت بقارئه عند محورين كبيرين ومهمين هما : محور التأمل، ومحور الصمت. وستأخذنا القراءة الموجزة إلى عالم الصمت من خلال كتابه (الصمت كرياضة روحية) ترجمه الدكتور عبدالوهاب المقالح أستاذ اللغة الإنجليزية في كلية اللغات جامعة صنعاء، والذي أمضى جانباً من حياته في الهند يتعرف الأبعاد الثقافية وأنماط الحياة في ذلك البلد العريق.

المفكر المقصود، وصاحب كتاب (الصمت كرياضة روحية) هو (سوامي براما نندا)، وتوحي سطور كثيرة في كتابه هذا بأنه كان على صلة وثيقة بتعاليم الإسلام وبالثقافة الإسلامية وما أنجزه المتصوفون العرب في هذا الحقل من إبداع وفكر، ومن تمجيد للصمت وانتصار على الصخب والضوضاء. وما أحوجنا نحن العرب في هذه المرحلة من حياتنا إلى الصمت وثقافة الصمت وإيقاف هذا الحال من الصخب المميت للمشاعر، والذي أوقع الأمة في مناخ من التناقضات واللا فهم ودفع بكثير من مثقفي هذه الأمة إلى الدخول في صراعات كلامية عابثة وغير ذات موضوع. 

يقول الدكتور المترجم تعريفاً بمحتوى الكتاب وما يقدّمه عن تصور عميق للصمت: (إن الثقافة العربية لم تعرف الصمت باعتباره عاملاً مهماً وضرورياً لمعرفة الذات والعالم والحفاظ على الطاقة الجسدية والذهنية من الهدر والتبديد، وتحقيق التوازن النسبي والانسجام، والانكباب على العمل المجدي بكفاءة عالية ...إلخ). ويشير المترجم أيضاً إلى أن (الصمت الحقيقي ليس الكف عن الكلام أو اعتزال الناس والهروب من الضجيج والانسحاب من الحياة العملية، بل الصمت تسكين الجسد والحواس والعقل بطريقة تجعلها أكثر يقظة، وأقدر على استيعاب المعرفة الحقة والنبيلة والتخلص - من ثم- من كل ما هو زائف ولا قيمة له).

يبدأ كتاب (الصمت كرياضة روحية) بما يشبه قصيدة عميقة المعنى باذخة اللغة، وهنا جزء منها:

صه، صه! تلك هي ساعة الصمت

حين تبحث الروح عن تجددها:

أيْها العقل المضطرب كم أنت شموس

تلهث وراء اللعب والمكسب


ما أشد صياحك وجنونك من أجل المتعة 

ما أعظم ورطتك المحمومة!

في هذا الجزء من القصيدة / المفتاح، وفي بقيتها تمجيد شعري منطقي يليق بالصمت، بوصفه مدخلاً إلى مملكة السلام المقدسة حيث يسود الهدوء، وحيث تتمكن الروح من أن ترى، وتحس وتسمع وتلمس ذاتها.

لقد عشت فترات قصيرة في عدد من المجتمعات الأوروبية، وما أدهشني ليس ما بلغته تلك المجتمعات من تقدم مادي قدر دهشتي بالهدوء الذي يسود الشوارع والأسواق والمطاعم والمتاجر الكبيرة. كنت أحرص في كل مدينة على الذهاب إلى سوق الخضار؛ لأنه في أقطارنا أشد ضجيجاً من بقية الأسواق الضاجّة والصاخبة، وكنت أجدُ هذه الأسواق في المدن الأوروبية على درجة من الهدوء ويرتبط بملحق لبيع الزهور، وعندما تدخل هذا الأخير تشعر بأنك في أحد المعابد. ولهذا فإن تلك المجتمعات كما رأيتها وعشت في بعضها لا تحتاج إلى تعاليم في الصمت، وإنما نحن فقط الذين نحتاج إلى تلك التعاليم، وقد حدثني واحد من أساتذة علم النفس عن سبب الصخب الذي تتميز به شوارعنا وأسواقنا والصراخ العالي الذي تطلقه الأغلبية، وإنه عائد إلى رغبة مكبوتة للتعبير عن قلق ما وشعور بضرورة الإفضاء عن مكنونات حبيسة في الأعماق. يبدأ الكتاب موضوع تأملاتنا بالسطور الآتية: البذرة في رحم الأم الأرض، ترقد في صمت تمتص الغذاء وبركات الطبيعة الأخرى حتى تمتد روحها وتنشق النبتة خارجه. وروح العبقري التي تتغذّى في التأمل الصموت، تنتظر مصير لحظة قطفها الموعودة. هل هناك أعمق وأبسط من مدخل كهذا لفصول كتاب يريد أن يعلمنا فضيلة الصمت، وما يترتب عليها من نتائج إيجابية في حياتنا وفي سلوكنا وفي أعمالنا؟ ومؤلف هذا الكتاب لا يكتفي بالحديث عن الصمت كرياضة روحية وقيمة أخلاقية فحسب، بل يقدّم قدراً مفيداً من الإرشادات للوصول إلى النتائج المتوخّاة من الصمت، وفي مقدمة تلك الإرشادات الإيمان بالله والثقة بأنه سبحانه حاضر معنا.

وهنا فقرة يتضح فيها هذا الجانب الإرشادي: (علينا أولاً، أن نثق بالله، أن نؤمن بأنه أكثر حضوراً وتحققاً من الأشياء المادية التي نراها ونلمسها، وعلينا، بعدئذٍ، أن نكون على استعداد لأن ننذر أنفسنا له كلية طائعين مختارين، ولنعلم أننا لا يمكن أن نفعل ذلك جزئياً، لا بد أن نهب أنفسنا كلية في سبيله، حينها فقط يترسخ يقيننا به. شتاتنا وحيرتنا هما ما يجعلان أمور الروح تبدو وكأنها عسيرة المنال، أمّا لذي القلب السَمح، فما أكثر ما تبدو في متناول اليد).

وتذكّرني الإشارة الأولى في هذه الفقرة عن حضوره تعالى معنا بالآية الكريمة التي وردت في مطلع سورة (الحديد)، وجاء فيها (وهو معكم أين ما كنتم)، وبما أن هذا الجانب من الكتاب إرشادي، وبتعبير آخر توجيهي فإنه يشير إلى المعوقات الكثيرة التي تقف في طريق مَن يرغب في الوصول إلى واحة هذه الحقيقة الروحية.. يقول: (لا يهمّ كم من المرات أخفقنا، لا بد أن نواصل طريقنا، بعض الناس سرعان ما يدركهم الفزع فيحيدون عن الطريق بمجرد أن تعترضهم بعض الصعوبات، لكن العوائق هي في الحقيقة نعمة عظيمة؛ لأنها تقوّي هممنا وتزيدنا حصانة. كيف نستطيع أن نقوّي إرادتنا إذا نحن لم نصمد أمام عائق صغير؟).

*نُشر في مجلة الشارقة الثقافية