د. صادق القاضي
الحمار الدبلوماسي.. والاستحمار السياسي!
الحمار.. حيوان أليف مفيد صبور.. ومؤسف كضحية إشاعة بشرية جعلته رمزاً للغباء، على أساس أنه ليس مثقفاً لدرجة القدرة على المفاضلة بين الكتب التي يحملها.!
هو هكذا بطبيعته.. لا يهمه نوع من يركبه، أو نوعية أو قيمة ما يحمله.. بقدر ما يهمه الجانب العملي: أن لا يعرضه الراكب للأذى، وأن لا تكون الحمولة مرهقة أو جارحة.
في هذه الحالة قد يجمح براكبه، ويعلن رفضه، بعكس أولئك الذين يهمهم نوع الحاكم ونوعية النظام. حتى لو كان الجانب العملي فاشياً، بما يشمل جلد الظهر وأخذ الثوب. والقمع والجوع والخوف والمرض.!
الحمار أذكى بالمقارنة.. وبالمناسبة الركوب حاصل في الحالتين. بأشكال مختلفة. "السياسة" هي المصطلح المهذب لهذه العملية في الثقافة العربية.
"السياسة" مشتقة لفظاً من فن التعامل مع الخيل، كذلك مصطلح "القيادة" من قيادة القطيع.. الحاكم سائس أو قائد أو -بالتشبيه الأكثر شيوعاً- راعٍ. و"كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته".
للقضية بُعد عالمي. السياسة فن لحماية الحظيرة "الدولة" وإدارة مصالح القطيع "الشعب". وبشكل عام: التعبير بالعلاقة بين الراعي و"الرعية" عن العلاقة بين الحاكم والشعب.. ظاهرة عريقة في التراث الإنساني.
كتاب "كليلة ودمنة" لمترجمه ابن المقفع، نموذج لهذا الإسقاط الحيواني للسياسة في التراث الشرقي القديم، كرواية "مزرعة الحيوان". لـ "جورج أوريول". بالنسبة للثقافة الغربية المعاصرة.
الحكمة التقليدية هنا أن على الراعي أن يكون ذكياً حكيما عادلا.. في التعامل مع قطيعه، وعلى القطيع أن يكون مطيعا صبوراً وربما غبياً تجاه راعيه.
جورج أوريول فقط بدأ بمطالبة القطيع بالحكمة والذكاء والمسئولية.. عبر تفاصيل درامية مضحكة مبكية فنتازية للغباء والاستغباء الذين يكتنفان عادةً العملية السياسية.
لم يكن الحمار موجودا في رواية أوريول، وإلا كان سيكون أذكى حيوانات المزرعة، بمعيار أنه -كما يقال عنه- يعض لسانه مرة واحدة في العمر. أي يتعلم من التجارب.
بهذه الذاكرة لم يكن الحمار ليثق وينجر مجدداً خلف خنازير مغامرة قادت القطيع من فشل إلى فشل، وأغرقت المزرعة بالويلات والأزمات والحروب والكوارث..
في المقابل. كثيرٌ من البشر. بلا ذاكرة سياسية، ينسون النكبات، ولا يتوقفون عن إعادة تجريب المجرب، ويُلدغون من جحر واحد مئات المرات.!
أليس هذا بالضبط هو التجسيد العملي للغباء. حسب تعريف العبقري إينشتاين: "أن تكرر نفس الخطوات. في نفس الظروف، وتنتظر نتائج مختلفة".!؟
الحمار -إذاً- بريء من تهمة الغباء.. لكن لم يعد بالإمكان إنصافه، بعد أن شاع وترسخ مصطلح "الاستحمار" في التعبير عن خداع السذج، والدعوات العاطفية لإعادة تجريب أنظمة شمولية مجربة.
كذلك مصطلح "المحمارة". وهو مصطلح شعبي يمني على الأقل. يعبر بذكاء عن الغباء الماثل في الاستجابة السلبية للاستحمار، وتصديق أن ما فشل في الماضي يمكن أن ينجح اليوم، أو أن ما دمّر أفغانستان والسودان.. يمكن أن يعمّر اليمن.!